الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في مواجهة الفصل التعسفّي – قراءة في المادة (12) من قانون العمل
الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
رسمت رؤية عُمان 2040 مسارات للنهوض بقطاع العمل والتشغيل في سلطنة عُمان؛ إذ جاء محور سوق العمل والتشغيل عبر هدفه الإستراتيجي (سوق عمل جاذب للكفاءات ومتفاعل ومواكب للتغيرات الديموغرافية والاقتصادية والمعرفية والتقنية) ليشكل مدخلا مهما في رسم ملامح العمل الوطني في سبيل تحقيق جملة من الأهداف الوطنية، ومنها (سوق عمل جاذب للكفاءات والعمالة الماهرة ضمن سياسات استقطاب واضحة المعالم والمعايير) و(سوق عمل بقوى بشرية ذات مهارات وإنتاجية عالية وثقافة عمل إيجابية)، وجسّد قانون العمل، الصادر بالمرسوم السلطاني (53/ 2023)، ملامح هذا التحول في إطار تطوير المنظومة التشريعية المعززة لهذه الأهداف، وعبر إيجاد بيئة عمل محفزة للإنتاج، تدفع بالعامل إلى مزيد من الابتكارية والتجديد، وتقلل من كل ما قد يعوق إنتاجية العامل، ومنه الفصل التعسفي للعامل؛ إذ أشارت المادة (12) من قانون العمل إلى جملة من الأحكام المرتبطة بالفصل التعسّفي؛ إذ جاء ما نصه: “يعتبر إنهاء صاحب العمل لعقد العمل فصلا تعسفيا للعامل إذا كان الإنهاء لأي من الأسباب الآتية:
١ – الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو المركز الاجتماعي، أو الإعاقة أو الحمل أو الولادة أو الرضاعة بالنسبة للمرأة العاملة.
٢ – انتماء العامل إلى نقابة عمالية أو مشاركته المشروعة في أي من أنشطتها أو بسبب تمثيله في العمل النقابي وفقا لما تقرره القوانين واللوائح والقرارات الصادرة في هذا الشأن.
٣ – تقديم شكوى أو بلاغ أو رفع دعوى ضد صاحب العمل، ما لم تكن الشكوى أو البلاغ أو الدعوى كيدية.
٤ – لأسباب تأديبية دون مراعاة أحكام هذا القانون وأنظمة العمل ولائحة الجزاءات في المنشأة.
٥ – تغيب العامل عن العمل بسبب حجزه أو حبسه لدى السلطات المختصة وانقضاء مدة الحجز أو الحبس دون الإحالة إلى المحكمة المختصة أو إعلان المحكمة براءته”.
إن تناول المشرّع لهذا الموضوع بشكل حسم أبعد كل صور الاجتهاد أو البحث عن المبررات التي قد تعطي صاحب العمل ذريعة للفصل التعسفي، وهو أمر يـؤكد على إنسانية هذا القانون وتعظيم الأبعاد الأخلاقية والإنسانية؛ باعتبارها مرتكزات أساسية يقوم عليها عقد العمل، تربطه بضوابط وأحكام دقيقة تبعده عن الذاتية وأهوائه الشخصية؛ إذ إن الفصل التعسفي يشكل انتحارا للكفاءة، وإجراما في حق الإنسان العامل المخلص إن ارتبط الفصل بأحد الأسباب المشار إليها سلفا، وعلى الرغم من أن قراءة الدلالات التي تحملها هذه المادة أكبر من أن تُختصر في مقال، إلا إنها مؤشر إيجابي لصالح العامل وصاحب العمل على حد سواء، يستهدف إيجاد بيئة عمل جاذبة للخبرة ومعززة للإنتاجية، تعظّم من شأن المهارات والقدرات، وتضمن المزيد من الأريحية والمرونة وفرص الاحتواء للعامل، كما تتيح للعامل فرص إنجاز أكبر وإنتاجية أعلى، وفق مسار وظيفي مستقر وعدالة مؤسسية، تأخذ بيده وتحافظ على استدامة عطائه، ومساحة أمان يجد فيها نفسه جزءًا من منظومة يقوم عليها فريق عمل يتكامل في جهوده، ويتقاسم المسؤوليات مع غيره في مجتمع وظيفي ينشد القوة، ويسعى للتميز، ويبني ذاته في ظل إدراك ووعي.
إن معطيات هذه المادة وانعكاساتها الإيجابية المتوقعة على مسار العمل في القطاع الخاص، يؤسس لتحول منشود في ظل بيئة عمل جاذبة ومنظمة، ويعزز من ثقة الشباب العماني في هذا القطاع، خاصة في ظل موجات التسريح القسرية التي ازدادت في الفترات الأخيرة، كما تشجع هذه المادة الكفاءات العمانية على العمل في القطاع الخاص؛ نظرا لما يوفره من شعور بالاستقرار في علاقة العمل؛ الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تشكيل صورة إيجابية عن القطاع الخاص لدى المواطن، ويساهم في تعزيز أداء القطاع الخاص وزيادة الإنتاجية، فضلا عن ذلك يكفل قانون العمل الجديد حماية حقوق العامل وصاحب العمل وبالأخص عند إنهاء عقد العمل؛ لذلك تصبح موجهات العمل قائمة على استشعار الجميع لمسؤولياته، فرب العمل يدرك أن المحافظة على حق العامل واجب عليه، ينبغي له أن يؤديه بكل إخلاص ومهنية واعتراف وثقة، وفي المقابل يدرك العامل أن بيئة العمل أصبحت أكثر تحفيزا واحتواءً واستقرارا له؛ الأمر الذي يحفزه على الالتزام ورفع أدائه المهني وزيادة إنتاجيته.
من هنا فإن تناول قانون العمل لهذه الأسباب في عمومها؛ إنما هي نتاج لمؤشرات وتقييمات ومراجعات وحوارات ونقاشات سابقة، قامت بها الجهات المختصة، أعطت خلالها صورة استشرافية، لها أهميتها في حفظ الحقوق وتحقيق التطلعات، وزيادة فرص التعاون والشراكة بين أطراف الإنتاج الثلاثة، وهي كذلك نتاج لجهود الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان في تسوية الخلافات الناجمة عن الفصل التعسفي، كما أجاز قانون العمل للعامل التظلم من قرار الفصل التعسفي؛ إذ أجازت المادة (10) من القانون للعامل الذي يفصل من العمل أن يتقدم بشكواه إلى الجهة المختصة خلال (30) ثلاثين يوما من تاريخ إخطاره بالقرار، وعليها اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في المادة (9) من هذا القانون، كما أوضحت المادة (11) أنه إذا تبين للمحكمة المختصة أن فصل العامل من عمله كان تعسفيا أو مخالفا للقانون فيجب الحكم إما بإعادة العامل إلى عمله، وإما بإلزام صاحب العمل بأن يدفع للعامل تعويضا لا يقل عن أجر ثلاثة أشهر، وبحد أقصى اثني عشر شهرا، يحسب على أساس آخر أجر شامل كان يتقاضاه، مع مراعاة ظروف العامل ومدة خدمته؛ وذلك بالإضافة إلى:
١ – مكافأة نهاية الخدمة المستحقة له قانونا وجميع المزايا الأخرى التي يقررها القانون أو عقد العمل، أيهما أكبر.
٢ – الأجر الشامل عن مدة الإخطار التي ينص عليها القانون أو عقد العمل، أيهما أكبر.
٣ – الاشتراكات التأمينية المقررة للفترة من تاريخ الفصل التعسفي حتى صدور الحكم النهائي.
وما يعنيه ذلك أن إنهاء العامل من عمله لم يعد في ظل قانون العمل أمرا شخصيا، يرتبط بقناعة صاحب العمل بقدر ما هو التزام أخلاقي يقتضي من صاحب العمل المحافظة على وجود هذا العامل، والحيلولة دون تأثير الجوانب الشخصية على قرار الفصل؛ إذ إن اتخاذ قرار الفصل -في ظل عدم وجود أي مبرر مقنع، ومنها قيام العامل بتصرفات أو ممارسات أو أخطاء متعمدة تضر بصاحب العمل ومصالحه أو تؤثر في سمعة مؤسسته وحركة نشاطها الاقتصادي والخدمي- يعد تعسفيا؛ الأمر الذي يتيح للعامل المتضرر من الفصل التعسفي حق الإبلاغ، وحقه في كسب القضية في المحكمة المختصة، ما لم يأتِ العامل بأحد الحالات الواردة في المادة (40)، والتي أجازت لصاحب العمل فصل العامل دون سابق إخطار، وبدون مكافأة نهاية الخدمة، فإن ما ضمِنته المادة (12) للعامل من فرص للبقاء في العمل منوط بحجم ما يقدمه في سبيل عمله بحرص وإخلاص، وما يعكسه من أخلاقيات العمل، وتقيده بالتعليمات التي تضمن سلامته وسلامة زملائه، وصيانة أدوات العمل، والحفاظ على سمعة المؤسسة؛ لذلك لم يترك المشرّع الأمر لمزاجية العامل أو صاحب العمل، بل إن القانون- بما أصّله من حقوق وواجبات- يمثل معادلة القوة لبناء مسار اقتصادي يحفظ حقوق العمل ويعزز من الإنتاجية، ويضمن الوصول إلى مستوى أعلى في الأداء الفعال والممارسات الأصيلة التي تحافظ على استمرارية العامل، وتعزز فيه روح المبادرة وأخلاقيات العمل، ليغلق بذلك باب الفصل التعسفي، والعبث بحقوق العمال، وهو بذلك يتيح مساحة أكبر لحضور البعد الأخلاقي والقيمي والاجتماعي والإنساني والاقتصادي الذي يحافظ على فرص الوصول إلى الجودة وتحقيق المعايير، وخلق مساحة مشتركة من قيم العمل، يتفاعل فيها رب العمل مع العامل؛ الأمر الذي يقتضي تعزيز مسار توثيق هذه الممارسات لضمان عدم تعارضها مع مبادئ قانون العمل ومرتكزاته؛ بهدف تحقيق الأمان الوظيفي للعامل، والاستقرار في العمل، وإعادة صياغة الواقع المهني بما يخلق بيئات عمل نموذجية راقية، يستشعر فيها كل فرد واجباته، ويقف عند حدود مسؤولياته.
أخيرا تجدر الإشارة إلى أن المادة (12) بما حددت من أسباب للفصل التعسفي، تشكل قوة تسند جهود الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان بالشراكة مع أطراف الإنتاج الأخرى لتحقيق الاستقرار الوظيفي للعامل، كما تسند دوره في تسوية حالات الخلاف الناجم عن الفصل التعسفي، ودوره في المتابعة والنظر في قرارات القوى العاملة الوطنية المنهاة خدماتهم، والحد من كل الممارسات التي قد تؤدي إلى الإساءة للعامل أو تهميش دوره بشكل عام؛ إذ قد أصبح التعامل مع هذه القضية قائما على أدوات قانونية ذات وضوح وكفاءة، ونؤمن أن السبيل الذي يضمن لهذه المادة التطبيق السليم ويعزز أدوات الرقابة والمتابعة والتصحيح وتوفير التشريعات والقوانين الصارمة هو التكامل الفعال بين أطراف الإنتاج الثلاثة والتزام منشآت القطاع الخاص بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، ونأمل أن يلعب الاتحاد العمال لعمال سلطنة عُمان دوره في رفع الوعي بالواجبات الأخلاقية والقانونية، وتقوية الالتزامات بين أطراف الإنتاج في رصد تحديات العمال ودراستها بهدف تعزيز الاستقرار الوظيفي وزيادة الإنتاجية في القطاع الخاص.