ضعف التنظيم النقابي وغياب العمال عن قضايا الأمة
حاتم قطيش، كاتب أردني
لم تكن الكثرة يوما – إن كانت متشتتة- مقياسا للقوة، وإنما يتحدث التاريخ دوما عن النخب المنظّمة ذات الرؤية الواضحة والتخطيط السليم، فقد قال رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: “ومِن قلة نحن يومئذ؟” قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، بينما قال -صلى الله عليه وسلم- في موضع آخر مثنيا على القوة المؤثرة: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله، وهم كذلك»، قالوا: “يا رسول الله وأين هم؟” قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».
إذا ما رجعنا إلى تاريخ تأسيس النقابات العمالية بوجه عامّ نجد أن الظلم الذي وقع على العمال قبل إنشاء النقابات العمالية كان يقع على عموم الأعداد الضخمة من العمال؛ ولكن الفئة التي أخذت على عاتقها مسؤولية التغيير وإنشاء النقابات العمالية كانت فئة قليلة، ولكنها آمنت أن الوحدة والتنظيم النقابي هو السبيل الوحيد لخلق القوة العمالية التي تمكّنهم من مواجهة ظلم بعض أصحاب العمل وغطرستهم.
النقابات العمالية هي كيانات تنظيمية
الفكرة التي تقوم عليها النقابات العمالية هي التنظيم؛ أي إنها كِيانات عمالية تحكمها دساتير وضعت بشكل مؤسسي تنظيمي، يقوم على تنفيذها نقابيون اُنتخبوا ضمن استحقاق انتخابي منظم، إلا إن الحلقة التنظيمية لا تكتمل إلا بتمتع الجمعيات العمومية للنقابات العمالية بحق مراقبة هؤلاء النقابيين ومساءلتهم ومحاسبتهم؛ وبذلك نلاحظ أن النسيج التنظيمي داخل هذه النقابات هو نسيج محكم ومتناغم ومتكامل، فوجود جمعيات عمومية واعية وقوية، تمارس حقها في التنظيم النقابي سيفرز نقابيين أقوياء يديرون هذه النقابات وفق رؤية الجمعية العمومية وتحت مراقبتها،كما أن وجود جمعيات عمومية وهيئات إدارية قوية بالتأكيد سيفرز دساتير نقابية محكمة ومتقدمة، تعزز حرية التنظيم النقابي لا تقوّضه.
والمراقب لوضع النقابات العمالية على مستوى المنطقة العربية يجد أنها في الغالب كيانات فردانية، تدار بعقلية الرجل الواحد، وتحكمها دساتير لا تعزز حرية التنظيم النقابي وتتعامل مع القضايا العمالية ببرود، أفقدها ثقة العمال واحترام أصحاب العمل والحكومات، وحال هذه النقابات العمالية لهو أقرب لما يمكن تسميته بالفوضى الخلاقة المخطط لها حتى تظل هذه النقابات قائمة شكليا ومعطلة عمليا، وحتى تظل أحيانا خالية من العمال أنفسهم!
غياب التضامن النقابي
انطلاقا من مبدأ التضامن، الذي يعني السلوك الإنساني يهدف إلى تخفيف معاناة الناس وآلامهم، أو الاتحاد أو الالتزام الذي بمقتضاه يُعين المقتدر المحتاج، والقوي الضعيف، ومن خلاله يساند الأشخاص بعضهم بعضا.
إن شيوع مبدأ التضامن هو من الأساسيات التي تقوم عليها النقابات العمالية؛ فالعمال يدعم بعضهم بعضا والنقابيون يدعمون العمال والنقابات يدعم بعضها بعضا، فإذا ما تحقق شيوع مفهوم التضامن، سيحسب أصحاب العمل قبل إلحاق أي ضرر بالعمال أو النقابيين ألف حساب، لكونهم يستندون إلى قوة العمال وتضامنهم.
وبالتضامن كذلك تساند النقابات العمالية القوية تلك النقابات التي تخوض نزاعات عمالية مع أصحاب العمل فيقوى موقفها وتتعزز قوة عمالها، وكذا فإن الحركة النقابية القوية المستندة إلى تنظيم نقابي قوي ستكون سندا وعونا لتلك الكيانات النقابية في الدول الأخرى، فتضامن الحركة النقابية على مستوى العالم عموما وعلى مستوى الوطن العربي على وجه الخصوص يمهد الطريق إلى تجويد التشريعات العمالية الوطنية وإبرام اتفاقيات عمالية عربية وأخرى دولية تدعم حرية التنظيم النقابي وتعززها وتساند العدالة والحرية.
قوة العمال هي عماد التنظيمات النقابية القوية
عند الحديث عن أي تنظيم نقابي عمالي قوي فلا ينبغي أن نغفل عن قوة العمال، فالعمال الأقوياء في وعيهم وممارستهم لحرية التنظيم النقابي سيدعمون التنظيمات النقابية المتينة ويتصدون لكل محاولة لعرقلة الجهود النقابية وسيتجهون نحو الاتحاد والتضامن بدلا من الخلاف والتفكك.
إن الحديث عن علاقة التنظيمات القوية بقوة العمال هو أشبه بالسؤال الأزلي من جاء قبل الآخر الدجاجة أو البيضة، ولا شك أن العلاقة تكاملية بين التنظيمات القوية وقوة العمال؛ فوجود عمال أقوياء هي ركيزة أساسية لوجود تنظيم نقابي عمالي قوي، وأيضا وجود التنظيم النقابي العمالي القوي هو داعم أساسي لتعزيز قوة العمال، وبهذا فإن طرفي المعادلة (النقابيون والعمال) يتحملون مسؤولية الحفاظ على قوة النقابات العمالية، فالنقابيون الأقوياء الصادقون مدانون إن هم لم يدعموا ركائز القوة في الكيان النقابي، وأولها قوة العمال من حيث تطويرهم وتوعيتهم وإتاحة المجال لهم لممارسة دورهم النقابي، كما يعد العمال الأقوياء في النقابات العمالية الضعيفة مدانين إن لم يقوموا بدورهم في استرداد الحقوق وفرض احترام أصحاب العمل لحقوق العمال، وعلى رأسها حقهم في ممارسة حرية التنظيم النقابي.
غياب النقابات العمالية عن قضايا الأمة
لا يجوز بأي حال أن تتصرف النقابات العمالية وكأنها في معزل عن بقية شرائح المجتمع والأمة؛ فعلى المستوى الوطني يجب على النقابات العمالية أن تتفاعل مع قضايا المجتمع العامة وتدعم أسس العدالة والحرية للجميع كما يتوجب عليها الوقوف في جانب أولئك الذين يقفون في وجه الظلم.
أما على المستوى القومي فإن النقابات العمالية باعتبارها من أقوى الكيانات التنظيمية التي يفترض أن تمثل أكبر شريحة في كل المجتمعات وهي شريحة الطبقة العاملة، فيتوجب عليها أن تتفاعل مع قضايا الأمة والشعوب التي تتعرض للظلم وتدعم حق الشعوب في الحرية والعدالة وتقرير المصير.
ومن حسن الحظ أن المناخ العام للنقابات العمالية العربية مهيأ إلى الوحدة والتضامن، ولا يوجد أي تبرير لحالة الخلاف والفردانية التي تسود عقلية من يسيطرون على هذه النقابات؛ فكيانات عمالية تنتسب إلى جذور تاريخية عرقية ودينية ولغوية واحدة أحرى بها أن تشكّل جبهة نقابية عمالية عربية متينة ومتماسكة.
والمتتبع للأحداث الجارية حاليا في قطاع غزة يحتاج إلى جهد مضنٍ لاستقصاء مواقف الاتحادات العمالية العربية بشأن ما يجري على أمل أن يجد على الأقل بيانا خجولا هنا أو تصريحا عاجلا هناك، إذ إن العديد من الاتحادات العمالية العربية- على الرغم من أن دساتيرها تدعم العدالة والحرية وتساند حق الشعوب في حق تقرير المصير – لم تكن استجابتها الجماعية بالمستوى المطلوب.
إن ما يقع من عدوان سافر على قطاع غزة ليتطلب تحركا نوعيا من النقابات العمالية العربية في توعية عمالها وحشدهم وتنظيم الفعاليات التضامنية وإطلاق الحملات الإعلامية والتواصل مع المنظمات الدولية لاتخاذ موقف دولي عادل وجاد تجاه القضية الفلسطينية؛ فإذا كانت جل المنظمات الدولية تدعي أنها ترتكز على مبادئ العدالة والحرية فأي قضية أولى من القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في حياة حرة وكريمة على أرضهم ودحر المحتل الصهيوني.