مقالات أخرى

الوظيفة والمواطنة – مقاربات لتأصيل الالتزام وتحقيق الإنتاجية

الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة

ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية العلاقة بين الوظيفة والمواطنة في تحقيق التزام ذاتي أخلاقي ومهني لدى الموظف خاصة، والمجتمع الوظيفي عامة، وحرصٍ على تعزيز مسار الإنتاجية لديه في ظل ما يصنعه من علامة فارقة في الأداء  الكفء والممارسة  الرشيدة؛  وبالتالي  عضوية العلاقة بين الوظيفة والمواطنة؛ لكونهما  وجهين لعملة واحدة، وهي الوطن والإخلاص له والعمل من  أجله؛  بحيث تصبح الوظيفة تكليفًا مهنيًّا،  يضع الموظف أو صاحب العمل أمام مسؤولية الوفاء بالتزاماته، والبر بقسمه، والمحافظة على أخلاقيات المهنة وأسرارها في ظل قناعات راقية، وشعور ذاتي، يتولد لدى الموظف بواجب رفع سقف توقعات الإنجاز لديه، والمحافظة على كفاءة المنجز المتحقق بممارسته الوظيفية في استدامته وقوته ونشاطه  وتفاعله؛  لتحقيق إنتاجية أفضل، والتزام أصيل وسلوك قويم، تتسع فيه العلاقة بين الوظيفة والمواطنة لكل المشاعر والأفكار والقناعات التي يبديها الموظف نحو أنظمة العمل والقوانين والتشريعات وبيئة العمل، واحترام المسؤوليات وتقدير المهام المنوطة به، وتقديم المفيد المبتكر من أجل ضمان رضا المستفيدين والمراجعين من عمل المؤسسة، منطلقًا في استشعاره بعظمة الدور والمسؤولية من المبادئ والمرتكزات التي تقوم عليها ثقافة العمل بالمؤسسة والقواعد والإستراتيجيات التي تعتمدها.

ولمّا كانت الوظيفة العامة عبارة عن مجموعة الواجبات والمسؤوليات التي تحددها السلطة المختصة وتتطلب فيمن يقوم بها مؤهلات واشتراطات معينة،  والمواطنة عبارة عن جملة الحقوق والواجبات والمسؤوليات، ومنظومة القيم  والأخلاقيات  والمبادئ التي يؤمن بها الفرد حول وطنه، والخصوصية التي يطبعها على مواطنته المتجسدة في الانتماء النابع من حبه له، وخدمته إياه، والولاء لسلطانه، واحترام حقوق المواطنين الآخرين وغيرهم ممن يعيشون معه على أرض الوطن؛ فإن مقاربة هذا التناغم والاندماج بينهما في تأصيل الالتزام وتحقيق الإنتاجية نابع من قدسية الرسالة التي تحملانها، وسمو الغايات التي تستهدفانها، وتعدد مشتركات القيم والمبادئ التي تعملان في ظلها، وقوة حضور الموظف/ المواطن، الحلقة الأقوى في رسم معالمهما، وتحديد بوصلة اتجاههما في نفسه ونحو الآخر؛ لتصبح الوظيفة بذلك ممارسة أصيلة للمواطنة وترجمة فعلية  لأدواتها؛ فالموظف والمسؤول المخلص مواطن أصيل، يحمل رسلة الوطن، ويعبر عنها في أقواله وأفعاله والتزامه وأخلاقه، وتنفيذه الحصيف للمهام وكفاءته في إدارة أعمال المؤسسة، وهي تكليف أمين، وعمل متقن، واحترافية تتجاوز حدود الأنا والمحسوبية، وفي المقابل تصبح المواطنة بما تمثله من جملة المبادئ والأخلاقيات  الأسس السياج العملي الذي تعمل الوظيفة في إطاره، فيحفظ لها قوتها، ويحافظ على أسرارها وخصوصيتها، ويوجه بوصلة عملها، وخط سيرها وسر نجاحها،  فترفع من سقف إنتاجية الموظف، والتزامه معايير الوظيفة الأخلاقية والتنظيمية والمهنية، والمبادئ المعززة  للاجتهاد والمثابرة والحيادية والانصاف، والالتزام بالقوانين والأنظمة ولوائح العمل، والنزاهة والاستقلالية، والمحافظة على أخلاقيات العمل والسرية، وحسن إدارة الموارد وصونها ، ومنع كل ما يؤدي إلى تضارب المصالح أو سوء استغلال الوظيفة.

وعليه تصبح معادلة الالتزام والإنتاجية الناتجة عن التناغم بين الوظيفة والمواطنة محطة لالتقاط الأنفاس وإعادة صناعة التوازنات، وإدارة محور التغيير والتصحيح  بالمؤسسات بما يوفره من كفاءة بشرية، مخلصة، قادرة على نقل محور التغيير وإدارته وتوظيفه لصالح المؤسسة وإنتاجيتها، كما يوفر في المقابل مستوى عاليًّا من المعرفة المهنية  المعززة بجاهزية الموظف واستعداده نحو صياغة سلوك مهني رشيد كنتاج لحس الشعور الذاتي بما تتطلبه الوظيفة كمسؤولية وأخلاق والتزام من  تضحيات؛ بحيث تظهر نتائج ذلك  على شكل أنشطة عمل مبتكرة، وإجراءات مرنة، ودقة في  إنجاز المهام، واحترافية في عمليات الرصد والتحليل والتقييم في كل مراحل الأداء؛ لذلك فإن كفاءة هذه العلاقة وفاعليتها، يرتبط بجملة من الموجهات التي تشكل جسور تواصل ومحطات عمل مشتركة، تقوم  على استثمار الموارد وتثمير الأدوات وترقية الفكر واستيعاب المعطيات وخدمة  المجتمع، وتقييم  السلوك، وتأصيل الرقابة، وتصحيح الانحرافات والاختلالات في التعاطي مع  محددات الوظيفة؛ فهي تحمل في  فقهها وفلسفة عملها الخيرية والإنتاجية، والقوة والمعيارية، والمصداقية والنزاهة، وتوظيف الفرص وإعادة هندسة الذات، وتعظيم قيمة الابتكار والموهبة والمبادرة؛  فالوظيفة والمواطنة وجهان لعملة واحدة وهي الوطن، والوظيفة اندماج للذات المخلصة المؤتمنة على حقوق المواطنين ورعاية مصالحهم في روح الوطن؛ فتؤطر فيه أبجدياته وقيمه  وأخلاقياته بما تغرسه في الموظف من مسؤولية، وتؤسسه فيه من قيم الإخلاص والأمانة والمصداقية والمهنية والالتزام والحس المهني.

وعندما يؤمن الموظف بأن الوظيفة مناط تكليف ومسؤولية، لا مناط تشريف ووجاهة، والكرسي الذي يجلس عليه ممر لا مستقر، متحرك لغيره غير ثابت له،  ليقوم  من خلاله بخدمة الناس، وتحقيق مصالحهم ورعاية  شؤونهم؛ فهو ملك للوطن وحق مكتسب له، وهو عليه أمين وراع  ومسؤول؛ لتندمج بفطرتها مع حس المواطنة، وتغرس في الفرد حب الوطن لما تقدمه الوظيفة له من  أمان واستقرار واستشعار بما وفره له الوطن من فرص، وأتاح له من مساحات لإثبات حضوره، ويصبح القاسم المشترك بينهما مبني على ما تؤسسه المواطنة – عقيدة وفكر ومبدأ  ومنهج عمل وممارسة –  في ذات المواطن/ الموظف من بصيرة ووعي، وفق منهجيات واضحة،  وأسس صحيحة، وضوابط معلومة، وتثمير في الحقوق والواجبات والمسؤوليات؛ فتصبح هذه المسارات محطات إنجاز واقعية، ومسارات عمل مقننة، وإستراتيجيات أداء يتقن الموظف أدواتها،  ويضبط خياراتها، وينتقي البدائل الداعمة لها، فيطورها ويخلص لها، ويصقل مهاراته وقدراته واستعداداته، ويلتزم واجباتها؛ عندها تصبح الوظيفة بيئة مصغرة لمنظومة الوطن الواسع، وتعبيرًا أصيلًا عن حبه وإخلاصه له، وشعوره بمسؤولياته نحوه.

وتبقى قدرة الموظف على تلمس هذه المعطيات في أثناء قيامه بمهامه الوظيفية، أو استحضار محطاتها في واقعه اليومي مرهونة بما يقدمه من إنجاز يتسم بالجودة والكفاءة والسرعة والدقة، محافظا على سقف توقعات المجتمع بشأنها؛ وامتلاك الممكنات الفكرية والنفسية والأدائية  والتطويرية في صقل خبراته ومواهبه وقدراته واستعداداه، التي تعود على وظيفته ومؤسسته ووطنه  بالخير؛ فيضبط سلوكه الوظيفي بضابط الوطن، ويدرك القوانين التي تحكم وظيفته؛ فيقف منها موقف المحافظ عليها، البصيربها؛ فيسعى لتحقيق مقاصدها ويحفظ أهدافها، ويطور من أدواتها، وطريقة ممارستها؛ لكونها وسيلة لإثبات الجدارة، وصدق الأمانة، وتوظيف مساحة الأمان لعمل نوعي من أجل عمان، ومع ذلك فإن الوظيفة ليست العلاقة الوحيدة التي تربط المواطن بوطنه، بمعنى أن انتفاء الوظيفة لا يعني انتفاء المواطنة، أو استباحة حقوقها، والانسحاب من استحقاقاتها، أو الهروب من  التزاماتها؛ ذلك أن الوظيفة هي كل مسؤولية  تصنع في  الفرد، أيًّا كان التزامًا  يؤسسه على بصيرة من الأمر، ونهج من الخُلُق، وقوة في الإرادة، فهي مسار  آخر في العمل من أجل الوطن، واستشعار حدوده وقواعده، ومنطلق لخدمته بطريقة  أكثر مهنية، وبشكل  أكثر مصداقية مع تعدد المنصات والمحطات والمواقف التي يستطيع المواطن  أنْ يبرز فيها مكانة الوطن وموقعه في كيانه، فإن توجيه الوظيفة لصالح إنتاج القوة في المجتمع يتأكد في ما يمنحه الموظف للوظيفة من وقت وجهد، وموقع لها في قلبه  وتفكيره، وما يحيطها به من عناية واهتمام والتزام، وما يسكبه على وظيفته من ماء الحياء، فيمتنع عن كل ما يؤدي إلى الاختلاس والرشوة، أو تأخير إنجاز المعاملة بدوافع شخصية، متجاوزا كل القناعات السلبية التي تقرأ الوظيفة في إطار الأنانية، والمصالح الشخصية، ونفوذ السلطة، والتعدي على حقوق الناس، وتأخير مصالح المواطنين.

وبالتالي أن تستدرك أطر التقييم وأنماط الكفاءة الوظيفية للموظف في القطاعين العام والخاص، هذا التكامل بين الوظيفة والمواطنة في صناعة ثنائي الالتزام  والإنتاجية؛ فحسن المظهر، والحضور المستمر للعمل، بنفس رضية متدفقة بمشاعر الحب ورغبة الإنجاز والعمل باللوائح والأنظمة  وإدارة وقت العمل، لا تكتمل إلا بما يمكن أن يتركه الفرد من بصمات في الواقع، ويقدمه في سبيل عمله من مبادرات جادة، تنعكس على كفاءة الأداء وتبسيط الإجراءات، كما أن ما تتخذه مؤسسات الدولة من إجراءات وأطر عمل مقننة في سبيل تعزيز التزام الموظف من خلال نظام البصمة الإلكترونية التي تستهدف ضبط مسألة حضور وانصراف الموظف، يجب أن يوازيها في المقابل التركيز على  الإنتاجية وكفاءة الأداء، وترسيخ مبدأ العدالة، والمعايير، والحوافز، وبناء منظومة فاعلة لتقييم الأداء، وتبسيط الإجراءات بما يضمن تفاعل الموظف معها، ورقابته الذاتية لها، وشعوره بأهميتها، تحفظ له حقوقه، وتحفزه على استدامة عطائه، وتجدد دافع الشعور لديه نحو  الإنجاز.

أخيرا ومع هذه التكاملية بين الوظيفة والمواطنة في ما تحملانه من دلالات القوة من أجل عمان، إلا أن من يربط المواطنة بمنصب يفخر به، أو وظيفة يشغلها، أو مركز اجتماعي يستجدي منه، أو مزايا مالية يحصل عليها، واهم يفتقر لجوهر المواطنة، وتصبح مواطنته مجرد جواز سفر، يتنقل به بحثًا عن المال، ليس له علاقة بأرض الواقع، وولائه لوطنه وانتمائه له، مرحلة عبور وقتية لغرض الحصول على مزايا معينة أو فرص وظيفية مناسبة، فيقيس مواطنته بميزان الربح والخسارة، وحجم ما تحقق له من مصالح شخصية، أو ما حصل عليه من هبات ومزايا ومكافآت، وما ظهور بعض الممارسات غير المسؤولة في المؤسسات، كالرشوة والاختلاس، والتسيب، وعدم المهنية في العمل، والتحايل على القانون، والسرقات للمال العام والاعتداء عليه، وزيادة مستويات الهدر، والبيروقراطية والترهل الوظيفي وحالة الانسحاب من المسؤوليات؛ إلا نتيجة حتمية لهذه الممارسة الضيقة للوظيفة العامة، والتحجيم السطحي لمهامها، وإبقائها في حيز السلطة والأنانية والفوقية، مما أدت إلى اختلال في مسار العمل، وموازين الأداء، وابتعاد عن نهج الحكمة، واضمحلال في الفهم والوعي واتساع التذمر والإحباط في الشارع العماني؛ مما يحصل من  قرارات غير مدروسة وممارسات غير مسؤولة في منظومة الجهاز الإداري للدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى