مقالات أخرى

العامل العماني في القطاع الخاص – طموحات وآمال

الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة

يمثل القطاع الخاص ثنائيا متكاملا مع القطاع الحكومي، بل أصبح اليوم في أبجديات الاقتصاد الحديث ركيزة أساسية لبناء اقتصاد قوي، وقادر على رسم ملامح مضيئة للتنمية المستدامة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى مساحة المرونة التي تمنح القطاع الخاص فرص أكبر للتجديد والتحديث والمراجعة والتصحيح، والتكيف مع الواقع الاقتصادي وسوق العمل والتحولات الحاصلة في النسق الاجتماعي، وما تمنحه التشريعات والقوانين؛ القاسم المشترك في عمل مؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات الأهلية من فرص أكبر لإعادة إنتاج واقع العمل وضبطه، وتطويره بحسب المستجدات الاقتصادية ومتغيراته، ومتى ما وجد القطاع الخاص تحديثا مستمرا في التشريعات والقوانين وأنظمة العمل انعكس ذلك على كفاءة أدواره، ورفع مستوى إنتاجيته.

إن القطاع الخاص -في ظل مستوى التشعب والتنوع فيه، واتساع مدخلاته وعملياته ومخرجاته-  يشكل قاعدة أساسية للاقتصاد الوطني، وقد حرصت سلطنة عُمان منذ عقود النهضة إلى تعزيز دور القطاع الخاص، وإيجاد بنية مؤسسية وتشريعية يستطيع من خلالها أن يمارس دوره الريادي  في منظومة التطوير والبناء الوطني، تجلى ذلك في دعوة القيادة الحكيمة لأبناء عُمان – وبالأخص فئة الشباب منهم- إلى الانخراط في القطاع الخاص، وتعزيز حضوره في سوق العمل، وعدم الترفع عن مهن الأجداد والآباء، مع الاستمرار في تطوير هذا المهن وعصرنتها، بما يتكيف مع طبيعة التحول، ويحقق فرص الجودة والمنافسة والإنتاجية، كما كان للمبادرات والتوجهات الوطنية المتعلقة بتوطين الوظائف أثرها الكبير في انخراط الشباب العماني في هذا القطاع، على أن زيادة فرص استيعاب القطاع الخاص للقوى العاملة الوطنية يجعل منه ركيزة أساسية في التنمية المستدامة، وتحقيق الإنتاجية؛ ولأن التشبع فيه قد لا يكون متحققا بعكس القطاع الحكومي، نظرا لتنوع احتياجاته وتسارع معطياته ومستجداته؛ ولأنه يقوم على قاعدة العرض والطلب وكفاءة سلاسل التوريد والإنتاج ومرونتها؛ فإن  التوسع في الخيارات والأنشطة والبدائل والفرص في ظل مرونة التشريعات وكفاءة برامج التدريب والتطوير سيضمن استقطاب أعداد كبيرة من المواطنين، وتبقى المزية التنافسية لهذا القطاع أنه يعتمد على الخبرة والمهارة أكثر من ارتباطه بالشهادات العلمية العليا؛ لذلك فإن المنخرطين فيه هم من فئة الشباب الطامح، والذي يمتلك شغف العطاء، والمبادرة، والعمل، وحب الإنتاجية، والتجريب والتطوير، والاستفادة من كل الفرص التدريبية والتسويقية المتاحة في تعلم الكفاءات والقدرات الوطنية مهارات العمل وثقافته؛ الأمر الذي يجعل منه قطاع نشطا يستوعب المكون الشبابي، كما يضمن حركة نشطة بداخله ناتجة عن  صغر العمر الزمني للمنخرطين فيه.

لقد ألقت التحديات التي مر بها الاقتصاد العالمي حتى نهاية عام 2021 من حيث  انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا، واستمرار الركود الاقتصادي العالمي، وارتفاع  مستوى التضخم كل ذلك وغيره، بظلالها على استمرار الشباب العماني في القطاع الخاص، والتكهن حول قدرته في استيعاب أعداد المواطنين من مخرجات الدبلوم العام وما قبله ومخرجات  المؤهلات الجامعية للعمل في مؤسسات القطاع الخاص -خاصة في ظل ما ارتبط بهذه التحديات من عمليات التسريح الممنهجة، والعقود المؤقتة وتأخر تسليم الأجور والرواتب للعمال، وزيادة فروق الأجور بين القطاع الحكومي والخاص- وباتت تلقي بثقلها على كاهل الشباب العامل في القطاع الخاص، وبات لها تداعياتها السلبية في تراجع عدد العمانيين في القطاع، ووفقًا لبيانات نشرها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، أشارت إلى أن إجمالي العاملين العمانيين في القطاع الخاص والمؤمن عليهم حتى نهاية يناير من عام 2023 283 ألفًا و152 مواطنا ومواطنة، مقابل مليون و730 ألفا و530 عاملا وافدا، وأوضحت البيانات التي نشرتها جريدة عُمان إلى تراجع عدد العمانيين العاملين في القطاع الخاص المؤمن عليهم تراجعا طفيفا في نهاية يناير، بنسبة بلغت 0.3%، بالقياس إلى 283 ألفًا 982 مواطنًا في نهاية ديسمبر 2022؛ وبالتالي ما تعكسه مؤشرات التراجع من علامة استفهام  كبرى حول قدرة القطاع الخاص على تحقيق طموحات العمال العمانيين العاملين في القطاع الخاص، ومستوى الثقة في قدرته على تحقيق التحول، وضمان استمرارية الشباب بالعمل في القطاع الخاص، والرضا به كخيار  أساسي  آمن للمواطن في بيئة عمل آمنة ومستقرة، وتحمل في ذاتها فرص التطوير والتجديد والتحول؛ وساههم استمرار هذا الوضع في التسريح في تراجع الإقبال على العمل في القطاع الخاص كبيئة آمنة مطمئنة، وخيار إستراتيجي نوعي مريح للمواطن في ظل ارتفاع مستوى المعيشة وغلاء الأسعار وزيادة أعداد الباحثين عن عمل والعقود المؤقتة وغيرها كثير مما بات يشكل هاجيا أمام الشباب العماني العامل في القطاع الخاص.

وعليه فإن الوصول إلى طموحات العمال العمانيين وآمالهم في القطاع الخاص، في ظل ما إشرنا إليه يفرض على الحكومة جهودا حثيثة وجادة في تأطير هذا القطاع، وإعادة رسم ملامحه، وهندسة معالمه من جديد، ووضع التشريعات والقوانين الضابطة التي تبرز قوة القرار الحكومي، وتلزم القطاع الخاص بمسؤولياته الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية والوطنية، وانتصار حق المواطن في مواجهة حالة الإخفاقات الناتجة عن  تدني مستوى تجاوب هذ القطاع من الأولويات الوطنية، وخلق فرص أكبر لإعادة هيكلة منظومة العمل  بشكل يتناغم مع طبيعة التحولات الحاصلة ورؤية عُمان 2040، وإيجاد مدخلات عمل متجددة تساهم في  استقطاب القوى الوطنية والمحافظة عليها؛ بحيث تجد فيها فرصتها لتحقيق الاستدامة، وإثبات بصمة حضور لها في واقع العمل وميادين العطاء والإنتاج والمنافسة؛ وبالتالي تبني جملة من السياسات والخطط والبرامج  والتشريعات التي  تحفظ منظومة التوطين والتعمين قائمة بأسلوب آخر ومنهجيات أخرى أكثر واقعية وتناغما مع التخصصات، وتقديرا للاحتياج وضبطا للموارد، وفي الوقت نفسه الإبقاء على حماس الشباب العماني في  الانخراط في القطاع الخاص على درجة عالية من التأهيل والتمكين والمصداقية والكفاء، إن ذلك يؤكد على مسؤولية القطاع الخاص في  الحفاظ على مستوى العلاقة بينه والمواطن في صورتها الإيجابي ومنظورها الإنساني الذي ينطلق من  المادة (١٨) من قانون العمل، والتي تنص على أن: “العمل حق للعمانيين، ولا يجوز لغيرهم ممارسة العمل داخل سلطنة عمان إلا وفقا للشروط، والأوضاع المنصوص عليها في هذا القانون والقرارات الصادرة تنفيذا له”؛ الأمر الذي يستدعي اليوم أن يتبني القطاع الخاص والمؤسسات الأهلية توفير منظومة عمل ملهمة في بيئة إنسانية، تراعي إنسانية الإنسان، وتحفظ له حقوقه، والتزام أخلاقي نحو المحافظة على أعلى سقف التوقعات لدى العامل، وتمكينه من امتلاك المهارات الأساسية وتقوية حضورها لديه، وفق لغة عمل متجددة، وروح تواصلة ممتدة، وأجور تتيح مزيد من المهنية والإخلاص، واستقرار وظيفي أمن يتجاوز حالة القلق والخوف من التسريح والفصل التعسفي، ونظام إداري قائم على تأكيد قواعد السلوك الإيجابي في العمل، ويراعي إدارة المشاعر  وحفظ توازن العامل الانفعالي، وصحته النفسية، مع رفع درجة الثقة في الكفاءة العمانية ومنحها القدر المناسب من الصلاحيات والتمكين  في ظل طبيعة العمل لضمان الأريحية في التعاطي مع متطلبات التغيير الحاصل في أنظمة العمل والبرامج وأدوات الممارسة المهنية، ومزيد من فرص التعلم الذاتي والتعليم والتدريب على رأس العمل، والاستفادة من الخبرات التراكمية في بيئة الشركة والمؤسسة، وفتح المجال للعمال للابتكار والاختراع من خلال تعزيز فرص الممارسة التأملية التي تستفيد من المواقف والظروف المتكررة والأحداث الحاصلة في المؤسسة، وخلق مزيد من الولاء والانتماء والروح الإيجابية العالية في ظل استشعار الجميع للمسؤولية الذاتية والرقابة الشخصية، واستنهاض مساحة  الذوق والرقي الفكري في أساليب وإستراتيجيات العمل الداخلية.

ومع التأكيد على أن قانون العمل الصادر بالمرسوم السلطاني ( 53/ 2023 ) قد منح العمال العديد من الحقوق والحوافز -خاصة ما يتعلق منها بساعات العمل اليومية، وساعة الراحة اليومية، ومراعاة ساعات العمل في شهر رمضان، ومنح العامل أجرا إضافيا يعادل أجره الأساسي إذا اقتضت مصلحة العمل تشغيل العامل ساعات إضافية أكثر من ساعات العمل المنصوص عليها، ومنح المرأة العاملة (٩٨) ثمانية وتسعين يوما إجازة وضع لتغطية فترة ما قبل الودلاة وبعدها، ومنح  العاملة المرضعة (١) ساعة يوميا لرعاية طفلها، تبدأ بعد انتهاء إجازة الوضع لمدة (١) عام واحد، واستحقاق العامل راحة أسبوعية مدفوعة الأجر لا تقل عن (٢) يومين متتاليين، وإجازة سنوية بأجر شامل لا تقل عن (٣٠) ثلاثين يوما، يتمتع بها حسب مقتضيات مصلحة العمل، ومنح العامل بناء على طلبه إجازة خاصة بدون أجر، وغير ذلك  الكثير من الحقوق والمزايا التي من شأنها أن تعزيز مفهوم الاستقرار العمالي في القطاع الخاص، وتساهم في خلق مساحة أكبر من الأريحية والإيجابية لدى العامل في توجيه هذه الفرص لتشكل  دافعا له نحو تحقيق الإنتاجية، وبناء مهاراته وكفاءاته المهنية وترسيخ القناعات الإيجابية لديه.

إنّ تحقيق هذه طموحات العامل العماني آماله في القطاع الخاص مرهون بمستوى جدية مؤسسات القطاع الخاص وصاحب العمل في  تطبيق أحكام القانون واللائحة التنفيذية له واللوائح والأنظمة والأحكام السارية على منظومة العمل أينما وجدت، وبدون الحاجة إلى مطالبة العامل بذلك أو رفع تظلمه إلى جهات الاختصاص، فإن شعور العامل بأن بيئة العمل والكادر الإداري فيها يعمل على تكوين بيئة عمل جاذبة ومريحة، تهيئ للعامل فرص أكبر لانطلاقته وشغفه في تحقيق التميز في الأداء، وضمان أن العلاقة  في بيئة العمل قائمة على الاحترام والشعور بالآخر والعلاقات الإنسانية، وتعظيم روح الفريق الواحد، وترسيخ الولاء والانتماء المؤسسي، وتعظيم قيم الحوار، وفتح آفاق رحبة للعامل في إبداء وجهات نظره في كل ما يحقق مصلحة العمل، والاستماع لشكواه، ومراعاة ظروفه وتقدير أوضاعه، وترقيه مفاهيم الذوق الرفيع وإدارة المشاعر، كل ذلك وغيره سيقدم فرص نجاح أكبر يستشعر فيها العامل بأن القطاع الخاص خياره الأفضل، وحظه الأوفر، وطريقه لتحقيق آماله وبناء مستقبله وخدمة وطنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى