مقالات أخرى

ضمان الانتقال العادل للعمال، ومواجهة التحديات المناخية

عمران البقلاني، اختصاصي علاقات دولية

 مفهوم الانتقال العادل

يمثل العمل في حياة البشر وقود الحياة ومصدر الرزق لتوفير شتى الحاجات الأساسية، ومع مرور الزمن تقلبت ظروف العمل، وتغيرت أشكاله، وتطور العلم، وكثرت الابتكارات والاختراعات التي أفادت البشرية على إثر الثورات الصناعية المتعاقبة التي أحدث تطورات نوعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومع استكشاف النفط والغاز من باطن الأرض واستخراجه وتصنيعه واستخدامه في تشغيل شتى المعدات والآلات الحديثة ظهرت عدة تغيرات مناخية مصاحبة لتلك الثورات الصناعية؛ بسبب ما تنتجه تلك الأجهزة والآلات بالمصانع من انبعاثات كربونية أدت إلى اختلال التوازن البيئي وأثرت تأثيرا  كبيرا على بيئة العمل؛ إذ فُقدت العديد من الوظائف، وفي المقابل اُستحدثت وظائف ذات صلة بتشغيل الآلات وأنظمة الحاسوب؛ مما أدى إلى عدم وجود انتقال عادل يضمن وجود فرص عمل لائقة ومستدامة لجميع العمال في ظل عدم توفر حماية اجتماعية تحميهم من تلك الانتقالات غير العادلة.

 يمكن تعريف الانتقال العادل بأنه عملية تحول الاقتصادات المعتمدة على النفط الأحفوري والأنماط التقليدية القديمة للعمل إلى اقتصادات ومجتمعات أكثر اخضرارا ومرونة واستدامة بطريقة عادلة وشاملة للجميع؛ وذلك من خلال ضمان فرص عمل لائقة للجميع، وتأمين حقوق العمال، وتعزيز سبل الحياة الكريمة، وزيادة الفرص الاجتماعية والاقتصادية للعمل المناخي من خلال الحوار الاجتماعي الفعال بين جميع الفئات المتأثرة، واحترام المبادئ والحقوق الأساسية في العمل في ظل ما يشهده العالم من تغيرات مناخية تتمثل في الانبعاثات الغازية والكربونية، وارتفاع درجة الحرارة بشكل غير مسبوق؛ إذ تعد معضلة التغير المناخي أكبر تحدٍ للبشرية في هذا العصر.

الاهتمام الدولي

أصدرت منظمة العمل الدولية دليل مستخدم يتضمن إرشادات منظمة العمل الدولية لانتقال عادل نحو اقتصادات ومجتمعات مستدامة بيئيًا للجميع؛ إذ جرى إعداد دليل المستخدم بهدف تشجيع المنظمات العمالية، ومساعدتها على المشاركة على جميع المستويات في المناقشات ذات الصلة بسياسات ضمان انتقال عادل، بما في ذلك تنفيذ المساهمات المحددة وطنيا لاتفاقية باريس للمناخ (2015)، وقد أشار الدليل إلى أن المنظمات العمالية هي صانعة التغيير والقادرة على تطوير مسارات جديدة للاستدامة، وضمان أن الانتقال لا يحقق أهداف سياسة المناخ فحسب، بل يشمل المبادئ الأوسع للتنمية المستدامة والعمل اللائق، ويساعد الدليل على فهم ماهية إرشادات منظمة العمل الدولية، وأسباب أهميتها وكيفية استخدامها. (1)

 وأطلقت منظمة العمل الدولية، على هامش مشاركتها في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022 (كوب 27)، الميثاق الأول للوظائف الخضراء للشباب؛ إذ جرى إعداد الميثاق من أجل الشباب، بالشراكة مع الأمم المتحدة ووكالات الأخرى، ويهدف إلى سدّ فجوة المهارات بين الشباب في البلدان النّامية، واستهداف القطاعات المعرّضة للتأثر بتغيّر المناخ، ويهدف بشكل خاص إلى خلق مليون وظيفة خضراء، ودعم تحوّل مليون وظيفة حاليّة إلى وظيفة خضراء، ومساعدة عشرة آلاف رائد أعمال للمشاريع الخضراء. (2)

ويجدر الذكر بأن مؤتمر العمل الدولي في دورته الـ١١١  هذا العام سيكون في جدول أعماله ضمن البنود الرئيسية بند خاص بالانتقال العادل، بما في ذلك النظر في السياسات الصناعية والتكنولوجيا نحو اقتصادات ومجتمعات مستدامة بيئيا للجميع. (3)

تسعى معظم دول العالم  لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي من ضمنها انتقال عادل لجميع العمال من خلال تضافر الجهود المشتركة بين القطاع العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني لمكافحة التغير المناخي وحماية التنوع البيولوجي؛ إذ أكدت الاتفاقيات الدولية ضرورة الالتزام الدولي بتبني اقتصاد مستدام ومنخفض الكربون؛ وقد سعت حكومات العالم إلى معالجة التحديات المتعلقة بالتغيرات المناخية، وضمان انتقال عادل لجميع القطاعات من خلال  التصديق على اتفاقية باريس للمناخ عام 2015، التي بمقتضاها وافقت جميع دول العالم على تكثيف الجهود من أجل محاولة الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بمعدل 1.5 درجة مئوية، وتعزيز تمويل العمل المناخي. (4)

يواجه العالم تحديات تتمثل في تلبية الاحتياجات المتزايدة من الطاقة وإدارة الانبعاثات في الوقت نفسه، وأساس تلك التحديات هو مبدأ إنتاج الكثير باستخدام القليل، كما يجري طرح المواضيع المتعلقة بهذا الموضوع في مؤتمرات قمم المناخ كل عام، الذي كان آخرها مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022 (كوب 27) الذي يعتمد على نتائج الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2021 (كوب 26) لاتخاذ إجراءات بشأن مجموعة من القضايا الحاسمة لمعالجة حالة الطوارئ المناخية، انطلاقًا من الحد بشكل عاجل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وبناء القدرة على الصمود، والتكيف مع الآثار الحتمية لتغير المناخ، وصولًا إلى الوفاء بالتزامات تمويل العمل المناخي في البلدان النامية أمام أزمة الطاقة المتزايدة، والتركيزات القياسية لغازات الاحتباس الحراري، وزيادة الظواهر المناخية القاسية.(5)

ركز المؤتمر على أربعة أهداف رئيسية، وهي التخفيف والتكيف والتمويل والتعاون، من خلال جهود الدول المشاركة في التخفيف، والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى أقل من 2 درجة مئوية، والعمل بجد للحفاظ على الهدف 1.5 درجة مئوية، ويعد المؤتمر امتدادا لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي الموقعة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (1992). في هذه الاتفاقية وافقت الدول على تثبيت استقرار تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي لمنع التدخل الخطير من النشاط البشري في نظام المناخ، وقد وقّع عليها حتى الآن 197 طرفا، ومنذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ عام 1994 أقدمت الأمم المتحدة بشكل سنوي على جمع كل بلد على وجه الأرض تقريبا لحضور مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي، المعروف بالاختصار (كوب)، الذي يعني )مؤتمر الأطراف.( (6)

دور المنظمات العمالية في ضمان انتقال عادل للعمال

لا يتحقق العمل المثمر للوصول إلى انتقال عادل للبيئة وللإنسان إلا من خلال حشد الدعم والإمكانيات للدول في مكافحة التغيرات المناخية والانتقال العادل للاقتصادات الناشئة، مع مراعاة إشراك جميع الأطراف المعنية، ومن ضمنهم العمال والنقابات العمالية في إبداء وجهات نظرهم، ومساهمتهم الفاعلة في تعزيز السياسات والأطر القانونية المعنية بالبيئة والمناخ؛ لتتماشى مع تحقيق ضمان الانتقال العادل للعمال، مع التأكيد على سلاسة الانتقال العادل للقوى العاملة وخلق الوظائف اللائقة وَفقا لأولويات التنمية وإستراتيجياتها لكل بلد.

 وتجدر الإشارة إلى أن تحقيق صمود قطاع العمل والعمال والمجتمعات بشكل عام أمام التحديات المناخية والتلوث وتدهور التنوع البيولوجي يمكن أن يتأتى من خلال تفعيل الحوار الاجتماعي بين أطراف الإنتاج الثلاثة، وبالأخص الفئات المتأثرة من العمال في بيئات العمل الأكثر عرضة لفقد الوظائف، والحاجة الماسة إلى احترام الحقوق الأساسية للعمال من خلال تفعيل الشراكة، والعمل المشترك بين العمال وصاحب العمل لضمان أفضل مستوى من الانتقال العادل لجميع القطاعات الاقتصادية تحقيقا لأهداف التنمية المستدامة المتمثلة في تلبية الاحتياجات الاجتماعية، بما في ذلك الحماية الاجتماعية، وفرص العمل مع معالجة تغير المناخ وحماية البيئة؛ إذ تشكل التغييرات المناخية تحديا صعبا للغاية على مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتتاثر بها أنظمة الحماية الاجتماعية في كثير من دول العالم؛ إذ إنّ العمال من ذوي المهارات المنخفضة والمتوسطة في الدول النامية يتأثرون بشكل أكبر بالقياس إلى الدول المتقدمة، وخاصة الفئات الهشة بحكم عدم جاهزيتهم المالية والفنية لمواجهة تحديات تغير المناخ؛ ولمعالجة تلك التحديات ينبغي للعمال والمنظمات العمالية المساهمة الفاعلة في صياغة السياسات والأطر المنظمة للعمل المناخي وطرح القضايا التي تمس مصالح العمال في  مختلف بيئات العمل؛ لتحقيق ضمان الانتقال العادل للعمال، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض المقترحات التي تساهم في خلق انتقال عادل ومستدام لقطاع سوق العمل، مع الحفاظ على البيئة:

  • تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في التصدي لتحديات التغير المناخي، وتقديم حلول ابتكارية ومساهمات فعّالة باستخدام التقنيات المتطورة والأجهزة الحديثة، والتحول التدريجي في قطاعات الطاقة مثل الصناعة، والكهرباء، والنفط والغاز، وغيرها، والحد من الانبعاثات الكربونية لأقصى مستوى ممكن، من خلال السعي للاعتماد على مصـادر الطاقـة النظيفــة، والتي تعمــل علــى استثمار طاقة مستدامة وصديقة للبيئة كطاقة الشــمس والريــاح والمــاء والهيدروجين الأخضر والتي تحد من الانبعاثــات الكربونيـة لتحقيق الحياد الصفري، كما تحد من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري.
  • دعم الأهداف التي أقرتها اتفاقية باريس للمناخ، والتي تهدف إلى تعزيز الاستجابة على ألا تتجاوز الزيادة في متوسط درجة الحرارة العالمية درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، وتحقيق الحياد الصفري الكربوني، والحدّ من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري بحلول عام 2050.
  • تعزيز الدور الفعال للجهات الحكومية المعنية، مثل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وهيئة البيئة، وأطراف الإنتاج الثلاثة في عمل دراسات وبحوث إستراتيجية لتقييم الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة لسياسات تغيرات المناخ على البيئة والعمال، مع دعم استخدام التقنيات الجديدة الصديقة للبيئة، وتعزيز الاهتمام بتقديم الدعم النوعي والفني لبرامج التدريب، وتنمية مهارات الموارد البشرية، وتدريبها على أنماط العمل الجديدة المختلفة، وتأهيلها التأهيل الجيد لتصبح قادرة على مواجهة تغيرات عالم العمل، ومواكبة التطورات ذات الصلة بالتخصصات الفنية الحديثة لتحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.
  • تبني مبادرات من قبل الاتحادات والنقابات العمالية والعمال العاملين في القطاعات الاقتصادية يجري من خلالها تسليط الضوء على التحديات الراهنة والمستقبلية حول بيئة العمل، ووضع التوصيات المتعلقة بالحلول والإجراءات لمواجهة التغيرات في بيئة العمل، والمواضيع ذات الصلة بالتغيرات المناخية، والعمل من أجل انتقال عادل للعمال يساهم في تقليل التأثيرات السلبية على شريحة العمال وحمايتهم اجتماعيًا، فضلا عن توفير فرص عمل لائقة لهم، وتعزيز قدرات العمال. 

 جهود السلطنة في مجالات الانتقال العادل والاستدامة

تخطو السلطنة خطا ثابتة نحو تحقيق التنمية المستدامة؛ فقد اعتمد صاحب الجلالة السلطان هيثم  بن طارق (حفظه الله ورعاه) عام 2050 موعدًا لتحقيق الحياد الصفري الكربوني، وإعداد خطته الوطنية، وإنشاء مركز عُمان للحوكمة والاستدامة بناء على مخرجات مختبر إدارة الكربون.

 ويعد الحياد الصفري الكربوني والتغيرات المناخية أهم مكونات الإستراتيجيات القطاعية الوطنية ومنها الصناعة والتخطيط العمراني والطاقة والنقل والزراعة والصحة وغيرها، كما يرتبط تحقيق رؤية عُمان 2040 وخاصة أولوية البيئة والموارد الطبيعية بتحقيق التوازن بين متطلبات التنمية المستدامة، واستخدام مستدام للموارد والثروات الطبيعية لنمو الاقتصاد الوطني، وتقليل آثار التغير المناخي من خلال الإجراءات المتبعة للحدّ منها، وسيساهم تحقيق الحياد الصفري الكربوني في تنويع مصادر الدخل، وإيجاد فرص للنمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام، مع تحقيق التوازن بين التنمية المستدامة، والحدّ من تداعيات تغير المناخ، وبناء اقتصاد المعرفة، والاستفادة من التكنولوجيا النظيفة لتحقيق التنمية المستدامة، وإيجاد مزيج متنوع من مصادر الطاقة مع تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للجميع.(7) 

 إن السلطنة بجهود مختلف الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني عازمة على المضي قدما نحو تحقيق المزيد من الإنجازات في المجالات ذات الصلة بسياسات التغير المناخي ومواجهة تلك التحديات، بما يضمن مستقبل مشرق، وتحقيق المزيد من الرخاء والرفاه للعاملين على أرض السلطنة تحت ظل القيادة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق (حفظه الله ورعاه).

—————————————————–

  1. wcms_826060.pdf (ilo.org)
  2. أطلقت منظمة العمل الدولية مبادرة عن الوظائف الخضراء للشباب وأدوات تمويل الانتقال العادل في المؤتمر السابع والعشرين لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP27) (ilo.org)
  3. Agenda of the 111th Session of the International Labour Conference (ilo.org)
  4. COP27: كل ما تحتاجونه من معلومات حول مؤتمر المناخ الأممي الكبير هذا العام في هذا التقرير | أخبار الأمم المتحدة (un.org)
  5. الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف (COP27) | الأمم المتحدة (un.org)
  6.  كل ما تحتاجونه من معلومات حول مؤتمر المناخ الأممي الكبير هذا العام في هذا التقرير:  COP27| أخبار الأمم المتحدة (un.org)
  7. ماذا يمثل اعتماد جلالة السُّلطان عام 2050م موعدًا لتحقيق الحياد الصفري الكربوني؟ (atheer.om)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى