لا بد من تقريب العلاقة بين العمل النقابي المحلي والمعايير الدولية
الدكتور رشيد الفيلالي المكناسي، عضو لجنة الخبراء لتطبيق الاتفاقيات والتوصيات بمنظمة العمل الدولية
ما تأثير الأزمات الاقتصادية، بما في ذلك جائحة كورونا على تراجع مستوى الحوار والحماية الاجتماعية، خاصة في المنطقة العربية؟
مهما كانت أسباب الأزمات الاقتصادية ومظاهرها فإن وقعها على علاقات الاستخدام وسوق العمل ومستوى العيش يتطلب دوما معالجة اجتماعية عميقة، ويمكن الاستشهاد بالأزمات العالمية الكبرى، مثل: أزمة 1926، وأزمة 1974، وأزمة 2008، والتحولات العميقة التي ترتبت عليها بشأن نمط الإنتاج، والحماية الاجتماعية، وعلاقتهما بواجبات الدول إزاء توفير التجهيزات الضرورية للارتقاء بالإنتاجية الداخلية والتنافسية الخارجية وضمان السلم الاجتماعي الضروري للاستقرار السياسي والرفاه الجماعي، وبالرغم من أن جائحة كورونا تكتسي طابعا صحيا بالأساس فإن وقعها على الاقتصاد والنظام الصحي والرعاية الاجتماعية فرض تغييرات عميقة، شملت ممارسة الحريات العامة وظروف العمل ودور المرافق العامة، وتنظيم علاقات الاستخدام والرعاية الاجتماعية؛ فمن تداعيتها مثلا الحجر الصحي الذي دفع إلى تقليص الفرق بين ممارسة الأعمال المهنية والالتزامات الأسرية وأيضا العمل عن بعد، والتدخل المباشر للحكومة في تنظيم الأسواق؛ فجميع هذه التحولات لا يمكن اعتبارها ظرفية، فهي تفرض إعادة ترتيب العلاقات الاقتصادية والاجتماعية واستشراف المستقبل استئناسا بتجربة جائحة كورونا.
يتبين من الجرد العام الذي أنجزته لجنة الخبراء بمنظمة العمل الدولية عام 2020 انطلاقا من التقارير التي تحصلت عليه من الحكومات والمنظمات المهنية لأكثر من 120 دولة؛ أن الدول التي ترسَّخ فيها الحوار الاجتماعي مثل: دول الشمال، عالجت المشكلات التي فرضتها الجائحة، من خلال التفاوض على جميع المستويات، وابتكرت لذلك آليات جديدة بتوظيف التكنولوجيا الرقمية، وإعادة جدولة الالتزامات السابقة، بينما لجأت دولٌ أخرى إلى مشاورات مع الشركاء الاجتماعيين لدعم الجهود التي تبذلها الحكومة لمواجهة الأزمة فقط، في حين تعمقت الأزمة والخلافات الجماعية في الدول التي لا تمتلك آليات ناجعة لتسيير الحوار الجماعي في مختلف القطاعات الاقتصادية وعلى المستوى الوطني عموما، وبالنسبة للدول العربية، يلاحظ أن التمثيل المجتمعي محدود، وأن المشاركة الوطنية في تدبير الشأن العام متواضعة، ولا شك أن المركزية الحكومة هي السمة الغالبة لإيجاد المعالجات وتجاوز الجائحة، وبالتالي انعكس سلبا على التفاوض الجماعي في الدول التي يمارس بها، وساهم في إضعاف الحقوق المهنية والمدنية بدعوى القوة القاهرة وحالة الاستعجال، يضاف إلى ذلك تزايد الباحثين عن عمل بين الشباب وتسريح العمال، وتخفيض الأجور؛ مما يخلق نزاعات جماعية وفردية مستقبلا، ليبقى الحوار الاجتماعي أفضل وسيلة لاسترجاع الحقوق والتعبئة من أجل تفادي استمرار الأزمات وتعمقها وصنع مستقبل أفضل.
ما أهمية المصادقة على الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية في الحد من نزاعات العمل وتخفيف الآثار الاقتصادية، وخاصة اتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقما 87 و98؟
يفرض الانضمام إلى المنظمات الدولية على الدول الأعضاء أن تتبنى القيم والمبادئ التي تقوم عليها هذه المنظمات، وإن لم تصدق على الاتفاقيات الصادرة عنها، وتأسيسا على ذلك؛ تصنَّف منظمة العمل الدولية الحرية النقابية والمفاوضة الجماعية ضمن الحقوق الأساسية للعمل؛ ومن بين 19 دولة التي لم تصدق إلى حد الآن على الاتفاقية الأساسية رقم 98 بشأن حق التنظيم والمفاوضة الجماعية نجد 4 دول عربية ومن بين 29 دولة لم تصدق على الاتفاقية رقم 87 بشأن الحرية النقابية، منها 9 دول عربية.
كما أن عدم التصديق على معايير العمل الدولية لا يعني حتما أنها مرفوضة أو غير قابلة للتطبيق؛ فعديد الدول تعترف بمضامينها في دساتيرها، وتكفل احترامها في القانون الوطني والممارسة، إلا أنّ التصديق عليها يطرح بالنسبة إليها مشكلات ذات طبيعة قانونية أو سياسية أو أمنية لا يمكن تجاوزها؛ وبالتالي موائمة قانونها الوطني كليا مع أحكامها، وعلى النقيض من ذلك، توجد عديد الدول صادقت على الاتفاقيتين، ولا تعترف عمليا بالحريات العامة، وتضيَّق على التمثيلية الجماعية لدرجة يفقد فيها التفاوض الجماعي كل معنى، وإن الجرد العام الصادر عام 2012 عن لجنة الخبراء بشأن الحقوق الأساسية في العمل يوضح مختلف الحالات التي يعرفها العالم في هذا المجال والجهود المبذولة خلال العقود الأخيرة من أجل الارتقاء بحق التنظيم والنهوض بالمفاوضة الجماعية.
وعلى الصعيد العربي، يلاحظ تقدم مضطرد في الاعتراف الشكلي بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية، وتباين واضح في تجسيده على الواقع سواءً تعلق الأمر بالعلاقات المنتظمة بين الشركاء الاجتماعيين أو إزاء الحكومة، وهناك أيضا خصائص اجتماعية وسياسية قد تعوق تجويد الحوار الاجتماعي والمشاركة الوطنية، مثل: حجم اليد العاملة الأجنبية، وطبيعة النظام السياسي، والتركيبة الديمغرافية للمجتمع، وضعف النسيج الصناعي وغيرها،
ومع ذلك فالتصديق على الاتفاقيتين 87 و98 يعبَّر عن إرادة الدولة في تحسين القانون والممارسة؛ من أجل تعزيز الحوار الاجتماعي في صنع القرارات التي تخدم المصالح الفردية والجماعية بتناغم من المصالح العليا للدولة، إلا أن العبرة والمقياس ليسا في التصديق فقط؛ بل في استقلالية الهيئات الجماعية ومقدرتها على المساهمة فعليا في ضمان التمثيل الجماعي واتخاذ القرارات ذات المنفعة المشتركة.
من وجهة نظرك، وفي ظل الأزمات الاقتصادية، ما الدور الذي يجب أن تلعبه النقابات العمالية على المستوى الوطني، وباستخدام معايير العمل الدولية للحفاظ على الحقوق الأساسية للعمال في بيئات العمل المختلفة مع مراعاة ظروف المنطقة العربية؟
ليس من باب المجاز أن توصف نقابات العمال ومنظمات أرباب العمل بالشريك الاجتماعي؛ فهي تعبر عن مصالح الأطراف الاقتصادية والاجتماعية، وينتظر من تفاعلها وحوارها الاجتماعي تحسين العوائد الاقتصادية وتحقيق توزيع عادل لثمارها واستتباب الرفاه والسلم الاجتماعي، إن جميع الاتفاقيات والتوصيات الصادرة عن منظمة العمل الدولية تحث على استشارة المنظمات الأكثر تمثيلية للعمال ولأصحاب العمل على المستوى الوطني؛ وذلك بانسجام مع الأنظمة والممارسات الوطنية؛ بينما تضفي الاتفاقيتين 87 و98 على الحرية النقابية والمفاوضة الجماعية طابع الالزام من أجل الوصول إلى إبرام اتفاقيات جماعية.
إن علاقات العمل تفرز على أرض الواقع نماذج مختلفة لتعامل الأطراف فيما بينها، ففي دول الشمال وألمانيا مثلا، يرجع بالأساس إلى الشركاء الاجتماعيين وتمنح الصلاحيات بشأن الإستراتيجيات الاقتصادية وظروف العمل والأجور والحماية الاجتماعية؛ وبالتالي تعطى الأولية للاتفاقيات الجماعية، ولا يلجأ إلى التشريع في هذه المواضيع إلا نادرًا، وفي حدود ضيقة، وفي دول أخرى يتجسَّد الحوار الاجتماعي في منظومة ثلاثية الأطراف تضمن على نطاق واسع المشورة الثلاثية والالتزام بالحوار والمفاوضة، وجميع هذه التجارب الوطنية تتلاءم مع المعايير الدولية ما دامت تضمن حق التنظيم للجميع واستقلالية فعلية للتنظيمات وحرية التفاوض الجماعي في إطار القانون وتحت مراقبة قضاء مستقل.
ولا ريب أن الوضع في المنطقة العربية لا يختلف كثيرا، ويفرز إلى حد ما هذا التنوع، فبعضها يقبل التعددية النقابية، وتحتكم إلى معايير قانونية في المفاوضة الجماعية، وتضمن المشاركة النقابية في السياسة الاجتماعية وتدبير المرافق الاجتماعية؛ في حين لا تسمح دول أخرى إلا بالتمثيل الجماعي عن طريق الممثلين المنتخبين تحت مراقبة السلطة السياسية؛ بالتالي يصعب الكلام عن ممارسة العمل النقابي في المنطقة على وجه عام دون اعتبار خصائص كل دولة، وتقييم الوضع بها بالنظر إلى استقلالية المنظمات وتمثيليتها ونطاق الحريات العامة وطبيعة الاقتصاد وحجم الاستثمار الخاص والعام، وتبقى النقابات ملزمة بالتكيَّف مع النظام العام، ومطالبة بتحسين تمثيلها ومقدرتها على المطالبة المهنية والتفاوض، ودون أدنى شك أن استلهامها من معايير العمل الدولية، والمرافعة من أجل التصديق عليها، واليقظة في موائمة تطبيقها مع الواقع تمثل روافع ذات أولوية لتحقيق الحوكمة، والتدبير الجيد في العلاقات المهنية والاجتماعية لتحقيق العمل اللائق.
اليوم، ماذا يحتاج العمل النقابي في العالم العربي لضمان استمراره في حفظ حقوق العمال، خاصة في ظل الأزمات التي تواجه العالم؟
يهدف العمل النقابي إلى ضمان الحقوق المكتسبة والمطالبة بتحسينها بناء على الظروف الاقتصادية ضمن مختلف القطاعات الاقتصادية أو على المستوى الوطني؛ لذلك يعتبر الحوار الاجتماعي بمختلف أشكاله من تمكين واستشارة وتفاوض وتعاقد جماعي أفضل وسيلة لتهيئة أطراف الإنتاج، والارتقاء بالاقتصاد، وضمان السلم الاجتماعي، وبناء المستقبل، ونأمل أن تكون جائحة كورونا عابرة، لكن العولمة والتحولات الاقتصادية وتطوير التكنولوجيا وتقلبات الأسواق الناتجة عنها تفرض باستمرار على أطراف الإنتاج والسلطات العامة التسلح باليقظة والسرعة في اتخاذ القرارات والمرونة في تطبيقها، فكلما توفرت جودة الحوار الاجتماعي كان بالإمكان مسايرة الواقع وتحقيق التوازن بين تحمل المخاطر وتوزيع العوائد بإنصاف؛ وعلى العكس، غياب قنوات الحوار وضعف مأسستها يدعم التدبير المنغلق والجمود، ورفض تحمل المخاطر؛ وبالتالي إضعاف المقدرة على التكيَّف مع المستجدات وفق ما يفرضه المحيط الدولي.
كيف يساهم التضامن الدولي والإقليمي في التخفيف من المظاهر غير الإنسانية التي قد تتعرض لها النقابات والعمال؛ نتيجة الأزمات الاقتصادية، أو استثمار بعض أصحاب العمل للأزمات الاقتصادية العالمية بهدف زيادة الأرباح على حساب حقوق العمال؟
على النطاق الدولي، يمكن اللجوء إلى هيئات الإشراف كلما تعرضت النقابات لانتهاك حقوقها، كما يمكن لها أن تكشف تجاوز الحقوق الاجتماعية المعترف بها للعمال باللجوء إلى الشكاوى والتقارير المضادة، والتوجه أولا لمخاطبة الحكومة، سواء من أجل ممارسة حق التنظيم، أو المشاركة المسؤولة، أو لمواجهة الأزمات وتحسين بيئات العمل، وفي تصوري الشخصي، أرى أن التضامن الخارجي وتوظيف إمكانيات التظَّلم لدى المنظمات الدولية لا يمكن أن يأتي بثماره إلا لتعزيز التعبئة الداخلية وفتح مجال الحوار الاجتماعي وتكريس الحقوق الأساسية في العمل.
كلمة أخيرة تود قولها؟
كل ما تقدم ما إجابات تعبّر عن قناعتي الشخصية بالأساس، وأتمنى أن تقرَّب العلاقة بين العمل النقابي المحلي والمعايير الدولية، وأن تكشف عمق التحديات التي تواجهها منطقتنا في مجال العمل اللائق والحوار الاجتماعي سواء في الظروف الاستثنائية لجائحة كورونا أو بالنظر إلى ما هو أبعد منها.