يتحتم معالجة قضايا الباحثين عن عمل بحلول جذرية وليست مؤقتة ترقيعية
الدكتور زاهر بن بدر الغسيني، متخصص في الفلسفة والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان قابوس
كيف ترى المؤسسات الإعلامية، ومواكبتها لقضايا الرأي العام، على سبيل المثال الحَراك المجتمعي الأخير حول تجمع الباحثين عمل عن عمل والمسرحين؟
نعلم أن الإعلام مرآة المجتمع، إلا أن دوائر التواصل والإعلام في المؤسسات ما زالت غير قادرة على مواكبة قضايا الرأي العام، في مرحلة يتعاظم فيها دورها في خضم الحَراك الإعلامي المتزامن والثورة التكنولوجية، حتى إن بعضها وقع فيما يُسمى بـ (التضليل الإعلامي)؛ باعتبار أن المجتمع على وعي بكل ما يحصل من ممارسات وأخطاء تتعارض والقوانين، لكنه يُفاجأ بالصمت المُطبق الذي يُثير حفيظته، وتتُرك التأويلات للمتلقي، وكأن دور المؤسسات الإعلامية انحصر فقط في حَراك المسؤول، وأنشطته المختلفة، والذي يلعب دورًا في الذوبان التدريجي لثقة المجتمع بالمؤسسة، في وقت يؤمل فيه أن يكون هناك جهد أكبر في إبراز أولويات المؤسسة، وجهودها، ومسار عملها الذي يسير ضمن منهجية واضحة، تحقق الأهداف المبتغاة.
ذكرتَ في إحدى اللقاءات الإذاعية أن وجود النقد بات أمرًا ضروريًّا في تحقيق رؤية عمان 2040، هل لك أن توضح ذلك؟
النقد أمر مُسلم به في منظومة الحياة، وعلينا تقبل النقد البناء إن أردنا فعلًا التقدم للأمام، ولكن هناك مَنْ يخاف من النقد، ويراه انتقاصًا لعمله وجهوده، وهذا أمر غير مقبول؛ لأن النقد يُمثل تغذية راجعة إن أحسن صاحب القرار الاستفادة منه وتقبله، ورؤية عمان وُضعت وفق مسار واضح لمحاور رئيسة؛ أُشرك المواطن في كل محور من محاورها، وهذا يعني أن النقد سوف يلازم الرؤية طوال مسارها؛ لأن هناك عمل وجهد يجب أن يُزامنهما تقييم، وتغذية راجعة؛ للوقوف على مَكْمن الأخطاء، والمعوقات، ونقاط الضعف التي تتخلل مسار العمل، والتغذية الراجعة تأتيك من المجتمع؛ باعتباره شريكًا أساسًا في الرؤية، ومَنْ يخاف من النقد لن يتقدم خطوة للأمام؛ لأن مَن يسعد بكلمات المديح والثناء؛ عليه أن يتقبل كلمات النقد؛ لتقييم مسار عمله عن الاعوجاج.
كيف تقييم لغة الخطاب الإعلامي، وما مدى تأثيرها في الشباب العماني؟
لغة الخطاب الإعلامي تحكمها السياقات والمتغيرات، وعندما نتكلم عن لغة الخطاب الإعلامي قبل عشر سنوات تقريبًا، نجد أنها تتباين ولغة الخطاب الإعلامي اليوم؛ باعتبار متغيرات المرحلة، والتي لا تحتمل التسويف، والمماطلة في التعاطي مع قضايا المشهد المجتمعي؛ لأن الإعلام اليوم لم يعد وسيلةً لنقل المعلومة والخبر للمتلقي لرسالته؛ بل أداة الحفاظ على الهوية الوطنية، إلا أن واقعنا اليوم يؤكد عدم قدرة الخطاب الإعلامي على احتواء الشباب، وفتح الحوار المباشر معهم، وتناول القضايا التي تهمهم، وتلامس احتياجاتهم، وناهيك عن البيانات الإعلامية التي تصدر عن بعض المؤسسات الحكومية، وتُصاغ بأسلوب يُترك فيه التأويل والتحليل للمتلقي، والذي يتنافى وغرض الخطاب الإعلامي، ورسالته المجتمعية.
ما دور اللغة الإعلامية في التعامل مع متغيرات المشهد المجتمعي؟
اللغة الإعلامية ما زالت غير قادرة على تأسيس الوعي لدى الشباب بالهوية الوطنية، وملامسة تطلعات المواطن في المشهد المجتمعي؛ في مرحلة تستوجب تقليل الفجوة بين المجتمع؛ وأصحاب القرار من خلال نقل المطالبات، والهموم المجتمعية بصورة إيجابية، والأحداث الأخيرة تُمثل دليلًا واضحًا على أن الإعلام لم يؤدِ رسالته المنوطة به؛ لأن شعور المواطن أن مطالبه وصلت لذوي الاختصاص كان كافيًا لاحتواء المشهدِ المجتمعي، وحماسِ الشباب العماني الغيور على وطنه، وإضافة إلى ما سبق ذكره، ما زالت لغتنا الإعلامية غير قادرة على بلورة رؤية عمان 2040 بطريقة تُشعر المواطن أنه شريكٌ رئيسٌ فيها.
من وجهة نظرك، كيف يمكن احتواء أزمة الباحثين عن عمل والمسرحين؟
هذه القضية تُمثل الهاجس الأكبر للحكومة، وملف الباحثين عن عمل والمُسرحين أكبر من جهة واحدة؛ لأنها مسؤولية مشتركة لجميع القطاعات في السلطنة، والتي تُحتم علاجها بحلول جذرية وليست مؤقتة ترقيعية، أو الدواء المُسكن للألم؛ لأن تفاقم المشكلة ينعكس على المنظومة المجتمعية في كل جوانبها، ورغم أن الحكومة تبذل جهودها في علاج المشكلة سواء بالإحالة للتقاعد لكل مَنْ أكمل 30 سنة خدمة في القطاع الحكومي؛ أم المبادرات التي أسداها سلطان البلاد -حفظه الله ورعاه- لتشغيل 32 ألف مواطن العام الجاري 2021، إلا أن الحلول الجذرية الفعلية أصبحت مطلبًا نظير ارتفاع المخرجات، ونمو ظاهرة المسرحين عن العمل من زاوية، والتي يقابلها عدم قدرة القطاع الحكومي على استيعاب جميع المخرجات، وعدم وجود قطاع خاص، منتج ومُولِّد للوظيفة من زاوية أخرى؛ وأرى أن وجود لجنة وطنية عُليا أصبح ضرورة، بحيث تتكون من أعضاء من القطاعين الحكومي والخاص، ومؤسسات المجتمع المدني، تعمل على إيجاد خطة تطبيقية لاحتواء الأزمة بعلاج جذري، وبنسب واضحة للتوظيف والإحلال، وآمل أن تتضمن الخطة التشغيلية التوسع في دعم ريادة الأعمال، والمؤسسات الصغيرة؛ لأن الشباب العماني على قدر من الكفاءة والقدرات والإمكانات لإدارة مشروعه متى ما وجد الدعم.
ما رأيك في مبادرات القطاع الخاص في توفير فرص عمل للباحثين عن عمل؟
مبادرات القطاع الخاص تُثلج الصدر؛ باعتباره شريكًا أساسًا في مسيرة التنمية، وإن كنت أرى أن تكون هذه المبادرات أكثر تنظيمًا في عرض الوظائف على الشباب حتى لا تتشتت الجهود؛ إذ أنّ الملاحظ مؤخرًا وجود العديد من الفرص الوظيفية في مؤسسات القطاع الخاص، دون وجود قاعدة وطنية واضحة، تُعلن فيها جميع الوظائف، بحيث تُسهل على الشباب الترشح لها وفق قدراتهم ومهاراتهم؛ وآمل أن يتوسع القطاع الخاص في دعمه للشباب العماني من خلال الإحلال الفعلي، والتعمين الجاد، ومنح الشباب الأولوية؛ مما يُعزز شراكة القطاع الخاص في عملية التنمية الشاملة، وتحقيق رؤية 2040، وهو ما أراده سلطان البلاد -حفظه الله ورعاه- بالمبادرات الأخيرة، والتي جاء منها دعم أجور العمانيين الجدد في سوق العمل بالقطاع الخاص بما مقداره (200) ريال عماني، والتي تُشعر القطاع الخاص بدوره الحيوي، وشراكته الحقيقة في مسيرة التنمية من خلال الإحلال الوظيفي للعمانيين، وتحفزه على ذلك.
من خلال اطلاعكم الشخصي، ما رأيكم في أهمية التوافق بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل؟
أحد أسباب تفاقم عدد الباحثين عن عمل يتمثل في عدم المواءمة بين المخرجات التعليمية وسوق العمل؛ إذ أصبح السوق يستوعب تخصصات دون غيرها، نتيجة عدم وجود خطة مواءمة حقيقية، يُعمل بها من زاوية، والتطور السريع لسوق العمل من زاوية أخرى؛ ممَّا أدى إلى وجود وظائف دون غيرها، وهذا الموضوع خطير جدًا إن لم نُحسن التعامل معه؛ لأن المخرجات التعليمية في تزايد ورفد مستمر، وعليه فإن المرحلة الحالية تُحتم العمل الجاد والتطبيقي لا النظري على سد الفجوة بين المخرجات وسوق العمل؛ إذ يتوجب أن تسعى المؤسسات التعليمية إلى تحديد أولوياتها المعرفية بما يتواءم ومتطلبات رؤية عُمان 2040، والأخذ بالأسباب الفعلية، والحلول الجذرية لعلاج مشكلة التزايد في الكمّ التخصصي على نوع التخصص؛ دون مراعاة لمتطلبات سوق العمل، وأول ما يُمكن الأخذ به علاج الجمود في المناهج الدراسية الحالية التي لا يتناسب أغلبها والمتغيرات المعرفية المستمرة، بحيث تكون أكثر استيعابًا للمتغيرات، ومتطلبات اليوم من المهارات، وإعادة النظر في التخصصات النظرية البحتة التي أصبح مجالها ضيقًا في ضوء متغيرات الواقع اليوم واحتياجاته، وفي هذا الجانب آمل أن يُستفاد من مقترح (المشروع الوطني لمواءمة مخرجات التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل)، والذي تبنَّته جامعة السلطان قابوس؛ باعتبارها بيت خبرة، يخدم المجتمع العماني، وهو مشروع مهم، يهدف إلى توفير توقعات كمية حتى عام 2040 لمؤشرات الاقتصاد الوطني، والنمو في القطاعات، وتحدي المواءمة بين مستوى التعليم العالي المعروض، ونوعيته، وما يحتاجه سوق العمل.
من وجهة نظرك، هل نحن بحاجة اليوم إلى تفعيل اقتصاد المعرفة؟
نعيشُ مرحلة يتعاظم فيها دور المعلومات والتكنولوجيا في كل جوانب الحياة، والتي تُحتم توظيفها بالشكل الصحيح من خلال اقتصاد قائم على المعرفة، أو اقتصاد المعلومات، فأصبح ضرورة وفق تغير معطيات الزمان والمكان؛ إذ بعد أن كان الاقتصاد يرتكز على في إنتاجه، مثلا على رأس المال في مجال الاقتصاد الصناعي؛ تغيَّر مساره فعليًّا؛ حتى أصبح يتعامل اليوم مع المعرفة باعتبارها سلعة، من خلال رأس مال فكري، بشري، متمكن من إدماج التكنولوجيا وتطبيقاتها في العمل؛ فأصبحت المعرفة تُمثل مُحركًا أساسًا للنمو الاقتصادي؛ إذ تُشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن اقتصاد المعرفة يُساهم تقريبًا بنسبة 7% من الناتج المحلي العالمي، وفي السلطنة علينا أن نسعى جاهدين للتحول نحو مجتمع معرفي، يقوم على اقتصاد المعرفة؛ لأسباب منها: مساهمته الفاعلة في تطوير جميع القطاعات من خلال نهضة معرفية، تُحسِّن مستوى الإنتاج لجميع القطاعات من خلال توظيف المعرفة، وتحويلها إلى مصدر من مصادر الدخل؛ كما أن اقتصاد المعرفة يمثل أحد الحلول الجذرية لمشكلة الباحثين عن عمل؛ إذ يمنح الوطن فرصة استثمار الشباب العماني، المُسلَّح بالمعرفة المتجددة، وتوظيفها في الأفكار الإبداعية، ثم ممارستها فعليًّا، ممَّا يعني توافر كفاءة تشغيلية، مبتكرة ومُبدعة، وخلق وظائف جديدة، ترتكز على المعرفة والتكنولوجيا، واستثمار الوقت في الإنتاج والمُخرجات.
هل من كلمة أخيرة؟
نحن في مرحلة انتقالية، وظروف يعلمها الجميع، وما يحصل في المشهد المجتمعي في السلطنة يحصل في كل دول العالم، كل ما علينا أن نؤمن أن الأخطاء جزء من المنظومة؛ لأننا لسنا في المدينة الفاضلة، والمرحلة الحالية تُحتم شراكة القطاعين الحكومي والخاص، وجميع أبناء الوطن؛ التي تحكم مسارها جائحة كورونا وانعكاساتها، أسوة ببقية العالم، وهذا لن يتأتى إلا من خلال خطاب إعلامي متوازن، يقدم الحقيقة المجتمعية، ويُلامس هموم المواطن، ويُوصل صوته لأصحاب القرار، كما يُشعر المواطن بواجبه الوطني، وشراكته، ومسؤوليته في بناء عُمان؛ ورؤية 2040.