الحد الأدنى للأجور
نبهان بن أحمد البطاشي، رئيس مجلس إدارة الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان
يقال: ما ضاقت إلا لتفرج، وما تعسرت إلا تيسرت؛ فيغمرنا اليوم ولله الحمد التفاؤل والبهجة بما نرى من مؤشرات بدء انحسار تأثيرات جائحة كورونا بعد الآثار الجسيمة التي خلفتها على ملايين العمال في مختلف دول العالم، يمثل الجانبان الاقتصادي والاجتماعي منها أقصى أبعادها، وقد كان للتنظيمات النقابية طَوال فترة الجائحة الدور الفاعل في إرساء التوازن اللازم بين المصالح المشتركة لأطراف الإنتاج؛ إذ قامت بالتعامل الرشيد مع الآثار والتخفيف من حدتها من خلال الحوار والمفاوضة الجماعية مع الأطراف المعنيَّة للوصول إلى حلول تضمن قدرة مؤسسات القطاع الخاص على الاستمرار مع الوفاء بحد أدنى من التزاماتها تجاه العمال، والتضحية بكثير من المزايا المهنية المقررة لهم، واتباع أنظمة عمل تتناسب مع ظروف الجائحة.
ويمر عام بما طوت أيامه من إنجازات وأحداث متسارعة، ويأتي عام آخر تكتنفه ظروف وتحديات ومعطيات متجددة، تستوجب منَّا أن نستأنف العمل فيه بأدوات نوعيَّة، تتناسب مع كل ظرف على حِدة؛ ساعين بذلك إلى ضمان الاستمرار والتقدم وفق عملية منتظمة من التنسيق والتعاون والتطوير مع مختلف القطاعات والشركاء بالسلطنة، في جهد متواصل من العمل لتحقيق الأهداف التي رسمناها.
وفي مطلع مايو من كل عام، يحتفل الاتحاد العام لعمال السلطنة وكافة العاملين على أرض السلطنة بيوم العمال العالمي إحياءً لهذه المناسبة العالمية التي تجسد مكانة العمال، وتقديرًا لدورهم في دفع عجلة الإنتاج والتنمية؛ لنستذكر مع العالم أجمع كفاح العمال، وتضحياتهم المستمرة طيلة العقود الماضية، والتحديات الجسيمة والظروف الصعبة التي خاضوا معتركها بكل حزمٍ واقتدار، ليشقوا طريقهم لتحقيق ما وصلوا إليه اليوم من مكانةٍ ومشاركةٍ في صنع القرار، وبناء مستقبل الأوطان، ووضع أسس العمل اللائق ومعاييره.
إننا على يقين تام بأننا لسنا بمنأى عن الأزمات التي عصفت بالعالم أجمع في السنوات الأخيرة، وما خلّفته من تداعيات اقتصادية ألقت بظلالها على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال بمختلف نواحي الحياة، لعل أبرزها ما نلمسه من استمرار بعض الشركات في حالات الإنهاء الجماعي لعقود العمل، وعدم صرف الأجور أو التأخر في صرفها أو الاقتطاع منها؛ بهدف الضغط على الحكومة لاستيفاء مستحقاتها أو الحصول على عقود جديدة، إضافة إلى التوسع في استخدام عقود العمل محددة المدة كذريعة لإنهاء الخدمة أو التخلص من تبعات الزيادة السنوية للأجر؛ الأمر الذي يؤثر على استقرار علاقات العمل.
وعلى النقيض من ذلك كان لبعض شركات القطاع الخاص مواقف مشرفة في قدرتها على التكيَّف مع الظروف واتباع منهجية الحوار والمفاوضة مع العمال لضمان استمرار العمل والإنتاجية لديها دون التأثير على المصالح الجوهرية للعمال، وبما يحقق مصلحة الطرفين.
وفي الجانب التشريعي والتنظيمي كشفت لنا الظروف الاقتصادية والاجتماعية أنه ما يزال هناك الكثير من القصور في تغطية قانون العمل الحالي لعدد من الجوانب التي تتطلب التحسين والتطوير ومواكبة متطلبات المرحلة، أهمها: تعزيز الحماية القانونية للعامل من الفصل التعسفي، وتحسين إجراءات تسوية النزاعات العمالية الفردية والجماعية منها، والحماية القانونية للعضو النقابي من الأعمال والأفعال التي تعرقل النشاط النقابي، وتنظيم العمل في القطاعات الاقتصادية في لوائح خاصة؛ نظرًا لطبيعة العمل في كل قطاع، وتعزيز مراقبة تطبيق تشريعات العمل من خلال تطوير تفتيش العمل وآلياته، بالإضافة إلى ضرورة وجود محاكم عمالية مختصَّة، وأثر ذلك على تيسير إجراءات التقاضي العمالي، وتنظيم جوانب التدريب المقرون بالتشغيل لمنع عدم التزام الشركات بتشغيل العمال بعد انتهائهم من التدريب، وغير ذلك من القضايا الأخرى المتصلة بضمانات العمل بالقطاع الخاص.
إن تلك التحديات، وما فرضته الأوضاع الاقتصادية في الآونة الأخيرة من إقرار بعض الضرائب، وارتفاع الأسعار، والرفع التدريجي للدعم عن عدد كبير من السلع والخدمات، وزيادة بعض الرسوم، وارتفاع نسب التضخم الذي بلغت معدلاته بنهاية مارس 2022 حوالي 3.6 %؛ يقودنا إلى أهمية إيجاد معالجات سريعة من قبل الحكومة لتحسين الحد الأدنى للأجور، وإقرار المنظومة الوطنية للحماية الاجتماعية، وينظر الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان إلى الأجور باعتبارها أداة للتنمية؛ فمنظمة العمل الدولية، ومنذ نشأتها لم تعتبر العمل سلعة؛ فقيمة الأجر لا يجب أن تخضع لقواعد العرض والطلب، وإنما تعتبر محورًا وجزءًا أساسيًا لكرامة الإنسان وتطوره وضمان الحياة الكريمة له، وعند الرجوع إلى القرارات السابقة المتعلقة بالحد الأدنى للأجور نجد أن آخرها كان القرار الوزاري رقم (٣٢٢/٢٠١٣)؛ الذي حدد الحد الأدنى لأجور القوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص بمقدار (٣٢٥) ريالا عمانيا؛ ومنذ ذلك الحين لم يُراجع الحد الأدنى للأجر رغم المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت خلال ما يقارب عقدًا من الزمان على صدور ذلك القرار.
إن مراجعة الحد الأدنى للأجور ينبغي أن تقوم على التشاور الكامل بين الشركاء الاجتماعيين؛ إذ تشجع اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (131) على إنشاء نظامٍ للحد الأدنى للأجور، واعتماد مبدأ التشاور بشأنه مع الشركاء الاجتماعيين، وإنشاء آلية لتعديله بين فينةٍ وأخرى، ويراعى عند تحديده حاجات العمال وأسرهم، واعتماد التدابير المناسبة لضمان تطبيقه؛ الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أن تلك المراجعة إنما تكون في إطار آلية محددة وخطط بعيدة المدى لتحقيق أهدافها، وتتخذ من معايير العمل الدولية أساسًا ومرجعًا، بما يتلاءم مع متطلبات الحياة والأوضاع الاقتصادية الراهنة وتوجهات الحكومة في جعل القطاع الخاص قطاعًا جاذبًا للكفاءات والقوى العاملة الوطنية.
ونؤكد أن دور الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان والاتحادات والنقابات العمالية أساسي في العملية الاقتصادية، وليس خروجا عن المألوف؛ لأن استقرار الأوضاع الاقتصادية يرتبط ويؤثر بشكل مباشر على علاقات العمل الفردية والجماعية والعدالة الاجتماعية بشكل عام وقضايا التنمية القائمة على مبدأ مشاركة أوسع للشباب والنقابات العمالية، كما نؤكد مطالبتنا بإنشاء لجنة وطنية تضم كافة الأطراف المعنية بمراجعة الحد الأدنى للأجور وتعديله ووضع الأطُر والآليات المناسبة لتنفيذ ذلك، إضافة إلى استحداث نظام مؤقت خاص لدعم أجور العمال منخفضي الدخل ضمن قانون الحماية الاجتماعية بالتوازي مع التزام مؤسسات القطاع الخاص بتحديد إطار زمني محدد لتحسين أجور العاملين بها، وتشجيع مبادرات رفع الأجور.
إن الانسياق وراء الآراء التي تحذر من أخطار رفع الحد الأدنى للأجور؛ لكونه السبب في ارتفاع الأسعار وإغلاق المؤسسات وحجب الاستثمارات، ولكونه المستهدف الأول وقت الأزمات في ظل عدم إجراء مراجعة للسياسة الاقتصادية ككل؛ جميعها آراء تتناسى أن القدرة الشرائية والاستهلاكية للعمال في تدنٍ مستمر؛ فتصبح القروض البنكية ملاذ العمال من أجل الاستجابة إلى حاجاتهم اليومية، مؤديا ذلك كله إلى تقليص مستوى الطلب على السلع والخدمات؛ وبالتالي على الإنتاج بشكل عام، مما يؤدي إلى انخفاض الحاجة للوظائف، وزيادة أعداد الباحثين عن عمل، والانكماش المالي، وما الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في الثلاثينيات من القرن الماضي إلا مثال لما يمكن أن تؤديه سياسات انخفاض الأجور ومستوى الدخل، وما تعانيه الكثير من مؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة وبعض قطاعات الدولة الاقتصادية من تأثيرات ما هو إلا نتيجة لتدني القدرة الشرائية للأفراد كأحد المسببات الرئيسية.
ووفقا للإحصائيات التي تنشرها الجهات المختصة يتبين أن حوالي 24% من المؤمن عليهم النشطين في نظام التأمينات الاجتماعية تتراوح أجورهم بين 325 و400 ريالا عمانيا فقط، كما تشير البيانات ذاتها إلى أن حوالي نصف المؤمن عليهم يتقاضون أجرًا يقل عن 500 ريالا عمانيا، وفي المقابل نجد أن متوسط إنفاق الأسرة العُمانية الشهري حوالي 757 ريالا عمانيا وفق نتائج المسح الأخير لدخل الأسرة ونفقاتها، الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات؛ الأمر الذي يستدعي معه ضرورة التدخل السريع، وإيجاد المعالجات الكفيلة بتحسين مستوى الأجور للقوى العاملة الوطنية، وتحسين منظومة الحماية الاجتماعية بما يضمن الحياة الكريمة للعامل وأسرته؛ فمتى وُجدت الإرادة تجاه تحقيق هدف معين؛ توافرت الحلول أو ما يؤدي إلى تنفيذها، ونحن في السلطنة ولله الحمد تتوفر لدينا من الدعامات والعوامل الإيجابية ما يساهم في إيجاد الحلول والمعالجات لتحسين الحد الأدنى للأجور للقوى العاملة الوطنية التي تشكل حوالي 18% فقط من إجمالي القوى العاملة بمؤسسات القطاع الخاص؛ فالأوضاع الاقتصادية تتجه نحو التعافي، والتسهيلات التي تقدمتها الحكومة للشركات والمستثمرين، وخفض رسوم بعض الخدمات المقدمة لأصحاب العمل، وإرجاء تطبيق بعض الضرائب، إضافة لجاهزية بعض القطاعات الاقتصادية لرفع الحد الأدنى للأجر، مثل: قطاعات البنوك، والنفط والغاز جميعها تصب في الاتجاه الذي يقلل من التبعات المالية على مؤسسات القطاع الخاص، والتي قد تنتج عن رفع الحد الأدنى لأجور القوى العاملة الوطنية؛ فضلًا عن مدى قدرة الدولة على تحمل بعض المسؤوليات في دعم الأجور لبعض الفئات من جراء التحسن الأخير في إيرادات الدولة؛ لكونها وسيلة اقتصادية معتبرة في الأزمات.
في الختام نتقدم بالشكر والتقدير إلى كافة شركائنا الاجتماعيين على ما يبذلونه من جهود في تنظيم قطاع العمل، وتعزيز الحوار والشراكة بين أطراف الإنتاج، والشكر موصول كذلك إلى النقابات والاتحادات العمالية على ما تقوم به من دور مهم في رعاية مصالح العمال، والدفاع عن حقوقهم وتحسين شروط عملهم وظروفه، رائدها في ذلك كله مصلحة الوطن ورفعة شأنه ودعم توجهات رؤية عُمان ٢٠٤٠ التي أرسى قواعدها قائد نهضة عُمان المتجددة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه.