اقتصاد المنصات الرقمية
الدكتورة هند بن عمّار، السكرتير التنفيذي بالاتحاد العربي للنقابات
شهد اقتصاد المنصات الرقمية توسعًا عالميًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة،
برأيكم، كيف يمكن تقييم هذا الواقع الجديد؟ وما يفرضه من فرص وتحديات على العمال؟
شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة توسعًا كبيرًا في اقتصاد المنصات الرقمية، وهو تحول يعكس سرعة دخول سوق العمل في مرحلة جديدة، قائمة على التكنولوجيا والابتكار الرقمي، وقد أتاح هذا النمو للعمال فرصًا متنوعة في ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، كما ساهم في خلق مسارات وظيفية جديدة في مجالات النقل، والتعليم، والخدمات المالية.
وفي الوقت نفسه، كشف هذا التحول عن ثغرات كبيرة في حماية حقوق العمال وظروف عملهم؛ مما يستدعي تدخل النقابات وأصحاب العمل والحكومات لضمان بيئة عمل عادلة وآمنة، وعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أن حجم الاقتصاد الرقمي في المنطقة العربية، قد يرتفع من 180 مليار دولار عام 2022 إلى نحو 780 مليار دولار بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي يقارب 20%، ما يعكس حيوية هذا القطاع وعمق تأثيره في سوق العمل.
كثير من الدراسات تشير إلى وجود ثغرات في ظروف عمل عمال المنصات بالقياس إلى العمل التقليدي، من وجهة نظركم، ما أبرز الانتهاكات أو التحديات التي يواجهها هؤلاء العمال فيما يتعلق بالأجور، والحماية الاجتماعية، وحقوق التنظيم النقابي؟
رغم الفرص الاقتصادية، يواجه عمال المنصات تحديات جسيمة تتعلق بالأجور المتقلبة، والحماية الاجتماعية غير الكافية، وعدم استقرار الدخل بسبب العمل بعقود قصيرة المدى أو على أساس المهام اليومية، كما يعاني بعض العمال من التمييز وعدم المساواة في الأجور وفرص التقدم المهني، وصعوبة الوصول إلى برامج التدريب والتطوير المهني، وهذه التحديات تشكل جميعا واقعًا، يعزز شعور العمال بعدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي، ويجعلهم أكثر هشاشة أمام الأزمات، ومن ثم، فإن تحقيق النجاح في قطاع المنصات الرقمية لن يتأتّى إلا إذا تم ربط النمو الاقتصادي بحماية حقوق العمال وضمان بيئة عمل عادلة وآمنة.
غالبًا ما تتأخر الأطر القانونية الوطنية في مواكبة التطورات الجديدة في سوق العمل،
هل تعتقدون أن التشريعات الحالية كافية لحماية عمال المنصات، أم أن هناك حاجةً لتحديث القوانين أو تطوير معايير جديدة تراعي خصوصية هذا القطاع؟
غالبًا ما تكون التشريعات الوطنية في البلدان العربية غير كافية لمواكبة خصوصية عمل المنصات الرقمية؛ إذ صُممت القوانين التقليدية لتنظيم السوق التقليدي، ولم تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الفردية والافتراضية للعمل على المنصات الرقمية.
وغياب الحماية القانونية لعمال المنصات يتركهم في وضع هش، ويحد من قدرتهم على ممارسة حقهم النقابي وحق المفاوضة الجماعية، ويزيد من تعرضهم للاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، لذلك، هناك حاجة ملحة تستدعي تحديث التشريعات الوطنية ووضع معايير واضحة تشمل الحد الأدنى للأجور، وتنظيم ساعات العمل، وضمان الحقوق الاجتماعية، وتعزيز حرية التنظيم النقابي، مع فرض الرقابة على المنصات الرقمية لضمان الالتزام بالقوانين والمعايير العمالية.
وتدرك منظمة العمل الدولية التحديات التي يواجهها عمال المنصات الرقمية، وتعمل حاليًا على تطوير إطار قانوني عالمي للعمل اللائق في هذا القطاع، يشمل ضمان الأجور العادلة، وساعات العمل المنضبطة، وظروف العمل الآمنة، والحماية الاجتماعية، بجانب الحق في التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية، والمساواة في الفرص ومنع التمييز على أساس الجنس أو العمر أو أي عامل آخر، كما تؤكد اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 190 على ضرورة القضاء على العنف والتحرش في العمل، وتشمل بيئات العمل الرقمية، وهو ما يمثل جزءًا أساسيًا من النقاش النقابي الدولي القائم في الفترة الراهنة.
تواجه النقابات العمالية صعوبة في تنظيم عمال المنصات بسبب طبيعة عملهم الفردية والافتراضية، برأيكم ما الممارسات الفعلية والنجاحات العملية التي يمكن للنقابات تبنيها لتعزيز حماية هؤلاء العمال وتمثيلهم نقابيًا؟
تواجه النقابات تحديات كبيرة في تنظيم عمال المنصات بسبب طبيعة العمل الفردية والافتراضية، لكن التجارب الدولية أظهرت أن التمثيل النقابي الفعّال يمكن تحقيقه من خلال ممارسات مبتكرة ومرنة، مثل:
- إنشاء منصات رقمية للتواصل المباشر مع العمال.
- تنظيم حملات توعية بحقوقهم وأهمية الانخراط النقابي.
- عقد اجتماعات ومفاوضات جماعية افتراضية لضمان مشاركة أوسع للعمال.
- تقديم دعم قانوني واجتماعي للفئة الأكثر هشاشة من العمال.
- التعاون مع المنظمات الدولية والحكومات لضمان إدراج حقوق عمال المنصات ضمن الأطر القانونية المحلية والدولية.
مع ازدياد حضور اقتصاد المنصات في المنطقة العربية، تبرز الحاجة إلى سياسات واضحة لحماية العمال، ما أبرز التوصيات التي تقترحونها للحكومات والنقابات لضمان عمل لائق في هذا القطاع؟
تشير التوصيات الأساسية إلى ضرورة تبني سياسات واضحة وشاملة لحماية العمال، تشمل:
- تحديث التشريعات الوطنية لتواكب خصوصية الاقتصاد الرقمي.
- تعزيز الحماية الاجتماعية وتوفير التأمين الصحي والتقاعد.
- تمكين التمثيل النقابي ودعم برامج التدريب والتأهيل المهني لتعزيز المهارات الرقمية.
- تشجيع الحوار الاجتماعي المستمر بين الحكومات وأصحاب العمل والنقابات والمجتمع المدني.
- فرض الرقابة القانونية على المنصات الرقمية لضمان الالتزام بالمعايير الدولية لمنظمة العمل.
- تعزيز العدالة والمساواة بين العمال وتقليل فجوات الأجور والفرص بين مختلف الفئات.
ويمثل الاقتصاد الرقمي فرصةً إستراتيجية للنمو الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية، لكنه لن يكون مستدامًا، إلا إذا تم التعامل بجدية مع الانتهاكات والتحديات التي تواجه العمال في هذا القطاع.
وفي الختام نؤكد أن حماية حقوق عمال المنصات ليست رفاهية، بل مسؤولية نقابية ومجتمعية، والالتزام بها هو الطريق نحو تحقيق اقتصاد رقمي عادل وشامل للجميع، وأن ضمان العمل اللائق والمساواة في الفرص والحماية الاجتماعية هو الأساس الذي لا بد منه لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة في عصر الرقمنة.