إدارة المشاعر للموظف العماني، وخيار السهل الممتنع للشركات ومؤسسات العمل
د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية إنسانية بيئة العمل وتأثيرها في تحسين الإنتاجية، وخلق حس التغيير الإيجابي في سلوك الموظف وقناعاته واهتماماته، وتعاطيه مع طبيعة المهمة التي يقوم بها، والمهام الوظيفية التي يمارسها؛ للقناعة بأنه كلما عززت بيئة العمل من مفاهيم إدارة المشاعر والاحتواء والعلاقات الإيجابية، وسياسة الباب المفتوح، والممارسة التأملية والتفكير الجمعي، والتغذية الراجعة المعززة للأداء، وفريق العمل المتكامل، والمسؤول الواعي القادر على النهوض باستحقاقات الموظف وصناعة الفارق في أدائه، وعبر فرص التحفيز التي يمنحها له، والمواقف النوعية التي تصنع شخصيته، وتعريضه لبرامج التدريب والتأهيل لإثبات بصمة حضور فعلية له في مسيرة الأداء، والثقة في إنجازاته، من أجل صناعة مورد بشري، كفء قادر على الوصول بالمؤسسة أو الشركة إلى أفضل المستويات، وتحويل المهام المجردة إلى حياة متجددة، تصنع للمؤسسة والشركة حضورا وهيبة في المجتمع.
وإذ كان حديثنا عن التأثير الإيجابي لهذه الموجهات في إطار مفهوم إنسانية الوظيفية واستحقاقات الموظف، فإن إجحاف حق الموظف في الاستمتاع بها، والحصول على هذا الإطراء والتعزيز، واستحضار هذه الموجهات في ثقافة المسؤول والكادر الإداري بالمؤسسة أو الشركة ممن كلفهم القانون مسؤولية الإشراف على هذا التقسيم سيكون له تبعاته السلبية ليس على أداء الموظف ومسار التزامه الوظيفي، وحرصه على أن يكون عنصرا نشطا فاعلا في بيئة العمل، بل أيضا في هويته المؤسسية، وولائه وانتمائه لها، والصورة الذهنية التي يعكسها عليها أو ينقلها للآخرين، ومستوى الاهتمام الذي يوليه لمبادئها وأنظمتها وقوانينها؛ الأمر الذي سيكون له ردود فعل سلبية على مختلف جوانب المنظومة، وانعكاساته على مسار وضوح الأهداف والأدوات والإستراتيجيات وكفاءة محطات العمل الموجهة نحو الترويج للمؤسسة والشركة.
ومع أن إدارة المشاعر للموظف لا تقتصر على مؤسسة دون أخرى، أو قطاع دون غيره، ويشترك فيها القطاع الحكومي والخاص، إلا أنها في ظل واقع مليء بالتحديات والمنغصات التي يواجهها الموظف في القطاع الخاص، في ظل ممارسات التسريح، وخصم الأجور، وفسخ العقود، وتوقف الترقيات، وضعف الحوافز والمكافآت، وتأخير استحقاقات الرواتب، وتدني مستويات الأمان والسلامة في بيئة العمل، وحجم الاختلال والفجوة الحاصلة في معيار الثقة في الكادر العماني، ولغة الفوقية والسلطوية والمزاجية، وفرض سلطة الأمر الواقع التي يتعامل بها المسؤول الوافد، وتحجيم مساحة الحركة الممنوحة للموظف العماني في التعاطي مع ظروفه الشخصية والاجتماعية، وغيرها من الممارسات السلبية، والظواهر التي باتت تعبر عن حالة من التذمر والامتعاض التي يعيشها الموظف في بعض مؤسسات القطاع الخاص والشركات، والتي أدت إلى مواجهات شخصية وكلامية في بيئات العمل، والمرافعات والبلاغات والشكاوى عبر النقابات العمالية، والرعاية العمالية، والمحاكم وغيرها؛ إذ تشير إحصائيات الاتحاد العام لعمال سلطنة عمان في موقعه الإلكتروني إلى أنّ إجمالي البلاغات المسجلة للعمانيين في عامي 2020 و2021 بشأن البلاغات، خصم من الأجر، وعدم صرف الأجر، والإخطار بإنهاء الخدمة، وإجبار العمال على الخروج في إجازات بدون أجر، وخصم مدة الحجر الصحي من الإجازات السنوية، وعدم الالتزام بتقليص عدد العمال في مواقع العمل في ظل جائحة كورونا بلغت (545) بلاغا، وأنّ إجمالي محاضر التسويات واتفاقيات العمل الجماعية في العامين 2020 و 2021 بلغت (738)، ونتج عنه تحويل بعض المؤسسات للادعاء العام من خلال الجهات المختصة.
وبالتالي فإن هذه الفجوة بحاجة اليوم إلى ردم مساحتها، وتقليل أبعادها للحد من الهدر الناتج من استمرارية هذا الوضع سواء كان في موارد الشركة وأموالها أو في مهارات الموظف وقدراته، وما قد ينتج عن ذلك من تشويه لصورة المؤسسة وهويتها أمام المجتمع، وتصبح مسألة إعادة هيكلة المسار، وتصحيح التجاوزات، وهندسة العمليات المؤسسية، ومراجعة لوائح العمل وأنظمته، وإقرار جملة من السيناريوهات البديلة والحوافز النوعية أولوية مؤسسية، تعيد تشكيل صورة المؤسسة والشركة في الواقع الاجتماعي؛ وبالتالي ما يعنيه ذلك من أن إدارة المشاعر لم تعد اليوم حالة مزاجية وقتية، يقدرها المسؤول المباشر بقدر ما هي عمليات مؤسسية أصيلة في قيم المؤسسة وأخلاقياتها وهويتها، وخيار إستراتيجي يجب أن تصنع له حضوره في فلسفة العمل، وثقافة المسؤول، وعند تطبيق القوانين واللوائح والأنظمة، في ظل منهجيات واضحة، ومسارات معلومة، وأدوات محددة، ومعايير مقننة، تضمن المزيد من المهنية والعدالة والموضوعية، والرقي في أسلوب العمل، واتباع منهجيات علمية تتكيف مع طبيعة المهام وخصوصية عمل المؤسسات والشركات، وتراعي المتغيرات الاجتماعية والنفسية والإسكانية والصحية للموظف؛ بهدف بناء أنموذج في الإدارة قادر على تكوين بيئة عمل محفزة.
وعليه فإن حجم الفجوة التي يشعر بها الموظف في مؤسسات القطاع الخاص والشركات، وسلطتها في اتخاذ قراراتها، في ظل تدني مستوى المتابعة لها بتحقيق التزاماتها المهنية والوظيفية والأخلاقية للموظف العماني، بما يؤكد على أهمية تبنّي إطار وطني ملزم للمؤسسات والشركات في إدارة المشاعر والصحة النفسية للموظف، وعبر جملة من الموجهات التي تلتزم فيها المؤسسات والشركات بتحقيق مسار الإنسانية، وإحداث تحول نوعي في برامج التعليم والتدريب والتأهيل، يستمد جذوره من هوية المؤسسة والشركة، والحضور المتوقع لها في الداخل والخارج، والمبادئ والأخلاقيات التي ترسم طريقة نجاحها، وتعبر عن ميزة تنافسية، تعمل المؤسسة والشركة على تأصيلها في ثقافة عملها وبرامجها وخططها، وتكوين بيئة عمل جاذبة قادرة على الاستجابة لطموحات الموظف ورغباته، وتتعايش معها بأريحية؛ لذلك تطلب الأمر سن تشريعات واضحة، تضمّن في قانون العمل بما يضع المؤسسات أمام مرحلة تحول جديدة في الممارسة المهنية الواعية، تتجه إلى التركيز على العنصر البشري الوطني، وتأكيد حضوره القوي في برامج الشركات وسياساتها وخططها، ليس إرضاء له، واستلطافا به، بقدر ما لهذه النُهج والالتزامات من أثر في امتصاص كل الشحنات السلبية التي باتت تؤثر على منظومة أداء الموارد البشرية العمانية، وبصمة حضورها في القطاع الخاص، وإزالة النظرة التشاؤمية السلبية غير العادلة التي شوهت صورة الكفاءة العمانية، وتحكم عليها في ظل تراكمات مسبقة وممارسات فردية، بما يلقي على الجهات المعنية والنقابات العمالية ووزارة العمل ومؤسسات التعليم والتدريب والأعمال وغيرها مسؤولية تصحيح المفاهيم المغلوطة.
من هنا فإن الحضور النوعي لمفهوم إدارة المشاعر والصحة النفسية يعني إيجاد بيئة عمل توافقية، أكثر استقرارا ووأمانا للموظف في استعادة حيويته ونشاطه، وتنشيط مدركاته الحسية والمعنوية، وتحفيز روح التغيير وفلسفة التجديد ونهضة المهارات وهاجس القيم والأخلاقيات لديه في ظل تأكيد قيم الاحترام والمسؤولية للإنجاز، وحسن التعامل مع الكفاءات، وفرص الاستماع لها، والاقناع في ظل الاختلاف، والتكامل في ظل القصور؛ بحيث يستشعر الجميع قيمة الرسالة التي يحملها ومنهج العمل الذي يعتمده في ظل مدخلات تراعي قيم الذوق في الخطاب، وحس التعامل مع المواقف، وحسن الثقة في أدائه، وتبني برامج التصحيح والإثراء والوقاية والعلاج في ظل ما يستجد في طبيعة عمل المؤسسة أو الشركة، فإن من شأن اتساع هذه اللغة الراقية في الشركات أن ترسم ملامح إنجاز راقية مثلها، وتبرز تحولا في نوعية الممارسة المرتبطة بحسن الشعور وبقيمة المشاعر وقيمة التقدير في السلوك المؤسسي لتتعدى منظومة إدارة المشاعر، وتتسع لتشمل قدرة أنظمة العمل والقرارات والإجراءات التي تتخذها المؤسسة والشركة على تحقيق التزام ملموس، يظهر في تضامنه معه، وتبنيه لمبادئها، والدفاع عن قيمها، بما يعزز من قدرته على الابتكارية في الممارسة، وفق قواعد المؤسسة والشركة وشروطها وضوابطه.
أخيرا، إذا كانت إدارة المشاعر تؤدي في النفس ما لا تؤديه غيرها من الأساليب، فإنها منطلق لتحقيق الالتزام القائم على الشعور الذاتي، ورقابة النفس، وصدق الضمير في التعامل مع مهام المسؤولية والوظيفة؛ لأنها تعني ببساطة كيف أستطيع أن أصنع من هذه الفرص المهمة محطة للتجديد ومدخلا للتغيير، ومسارا لحشد الجهود نحو تحقيق أهداف المؤسسة والشركة بكل أريحية وإخلاص، وبدون الحاجة إلى أي رقابة أو قانون. لقد نظم قانون العمل هذا الجانب واضعا إنسانية الموظف وحقوقه المشروعة في أولوياته، وحدد أخلاقيات الوظيفة وواجبات الموظف وما يحق له وما يحظر عليه، وإن المتتبع لها يجدها نابضة بالمشاعر المهذبة بروح القانون، والمؤطرة بجميل التعاون من أجل تحقيق أهداف المؤسسات، ومطرّزة بحسن الخلال وجميل الصفات في أساليب التعامل ومنهجيات العمل، فإن إدارة المشاعر في ظل منظومة التحول المؤسسي التي اتجهت إليها الحكومة لتحقيق رؤية عمان 2040، تبرز اليوم كسلوك تنظيمي أصيل لا غنى عنه لأي مؤسسة أو شركة، بل أحد معايير الكفاءة المؤسسية، ومرتكزات نجاح منظومة قياس الأداء الفردي والمؤسسي في ظل قدرة الإجراءات الثابتة على احتواء الموظف، وتحقيق مستويات عالية من الرضا الوظيفي لديه.