الاغتراب الوظيفي يحيط بمؤسساتنا، كيف نواجهه؟
علياء الجردانية، اختصاصي إعلام أول، الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان
منذ ما يزيد على 10 أعوام يعمل وليد الراشدي في إحدى مؤسسات القطاع الخاص. بعد حياة جامعية مليئة بالشغف والحماس، التحق بالعمل الذي كان يرجو منه التطوير والاستفادة وإثراء بيئته بالمبادرات، لكن الأعوام اللاحقة كانت كفيلة بإيقاعه في دوامة الإحباط؛ فالمؤسسة التي يعمل بها لا تقدر عمله اليومي، وليس هناك أي اكتراث بما يقدمه واليوم بعد مضي تلك الأعوام من الإحباط وهدر الطاقات وفقدان الشغف يقع وليد في حالة اغتراب وظيفي؛ فهو حاليا منعزل عن زملاء العمل، وغالبا ما يحاول الخروج لإجازة أو مغادرة مكان العمل باكرا، والمكان بأسره أصبح غير جاذب بالنسبة له، ويفكر بالانتقال لوظيفة أخرى.
تسلط قصة وليد الضوء على نماذج عدة من واقعنا المهني والوظيفي في المؤسسات المختلفة، وتبرز ما يعرف بظاهرة الاغتراب الوظيفي؛ فوليد يمثل نموذجا من نماذج عدة لعمال فقدوا أملهم في التغيير، وفي هذا الاستطلاع الصحفي ستكون لنا وقفة مع ظاهرة الاغتراب الوظيفي، وأثرها على الموظف نفسه وعلى المؤسسة بشكل عام.
الاستئذان والغياب المتكرر قد يكون أحد أسباب الاغتراب الوظيفي
يعّرف د. ناصر الشمري، وهو محاضر ومدرب وخبير ومستشار إداري بالكويت، مفهوم الاغتراب لغويا بوصفه: “شعور يكتنف الإنسان، ويحيطه بالقلق الشديد والمفرط، والضياع، واختلاف شعوره وعواطفه وأفكاره عن بقية أفراد الجماعة والمجتمع المحيط. بينما يصفه في شكله التنظيمي والإداري على أنه: ميل الموظف والفرد العامل إلى الانطواء، وسلوكه طريق العُزلة؛ وبالتالي شعوره بعدم الانتماء لفريق العمل، أو الوحدة أو الجماعة التنظيمية التي يعمل ضمنها في المؤسسة”.
وفي مجلة هارفارد بيزنس ريفيو العربية، المتخصصة في الإدارة والأعمال، تعرّف صالحة الإسماعيلية، مختصة في تطوير الموظفين، هذه الظاهرة على أنها: “ظاهرة تنأى بالموظفين عن وظائفهم، وتسبب حالة من العزلة وخيبة الأمل، وشعور بالانفصال عن بيئة العمل، وانخفاض الولاء للشركة. ويحدث عادة عندما يفقد الموظف استقلاليته، ويعجز عن فهم دوره بين الآخرين في العمل، وطرق إنجاز هذا الدور، ومسار العمل المستقبلي؛ الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض حاد في الإنتاجية، وبطء تقدم العمل”.
ونتيجة لذلك؛ يرى الشمري أن أفراد المؤسسات قد يشعرون بالشلل، وعدم القدرة على مواجهة المشكلات الفنية والوظيفية التي قد تواجههم في بيئة العمل في الوقت الذي يسود التوتر في العلاقات الاجتماعية بين الموظفين في بيئة العمل وبينهم وبين العملاء الآخرين المستفيدين من خدمات المؤسسات، وينظر الشمري إلى أن ملامح هذا الاغتراب تتشكل في كثرة الاستئذان للانصراف من العمل، والغياب المتكرر عن العمل سواء بعذر مقبول أو حتى من دون أعذار؛ مما يؤثر على إنتاجية القوى العاملة، ويؤدي إلى عزلتهم وانطوائهم عن المجتمعات الوظيفية، فضلا عن شعورهم السلبي الباطني الذي قد لا يستشعر من جانب أصحاب القرار.
بين الدوافع المادية والمعنوية … كيف يتشكل الاغتراب الوظيفي؟
يتطرق الشمري إلى أسباب الاغتراب الوظيفي قائلًا: “بطبيعة الحال، يصعب على أي باحث إداري أو أي مُفكر متخصص حصر جميع الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم مشكلة الاغتراب الوظيفي في مؤسساتنا ومنظماتنا الخليجية والعربية بيد أن هناك جُملة من الأسباب قد تنحصر في عدة دوائر مهنية ووظيفية، من أهمها: قلة الرواتب والأجور، والحوافز المالية أو انخفاض الدوافع المعنوية للعمل، والمشكلات الناجمة عن عدم السيطرة على مُشكلات سوء الفهم بين فِرق وجماعات العمل، لا سيّما في البيئة ذات التنوع الثقافي والعرقي، كما هو الحال في سلطنة عُمان والكويت كذلك، ولا تُستثنى بقية دول الخليج”.
ومن جُملة الأسباب التي يوضحها الشمري أيضًا، إجبار الموظفين على العمل في أقسام ووحدات إدارية، لا علاقة لها بطبيعة مؤهلات أولئك الأفراد ومهاراتهم، واستخدام أساليب تقمع أفكار الموظفين المُبدعين، وتحد من حريتهم في التعبير عن آرائهم وأفكارهم المتعلقة بالعمل؛ وبالتالي عدم مشاركتهم في صنع القرارات.
من جهة أخرى، يرى الدكتور فهد العضياني، أكاديمي بجامعة الملك عبد العزيز أن الاغتراب الوظيفي متصل بالعقد المبرم بين المؤسسة والموظف؛ فالموظف ينبغي أن يعرف الوصف الوظيفي الكامل لعمله، ويتصل بذلك ساعات العمل، مع توفير معايير السلامة المهنية والتقييم السنوي لتطوير العمل، ويرى العضياني أن الاحتراق الوظيفي متصل بعمل الموظفين في كل مجال أو العمل دون تخصص أو شهادة مهنية أو إشغال العامل بأمور معقدة ليست من صميم عمله أو لا ينص عليها عقد العمل، ويقول: “يصبح الموظف أو العامل غريبًا عن العمل، وكارهًا لبيئة عمله، والواجب الأخلاقي يقتضي وجود ولاء وحب للعمل؛ إذ هو سبيل الإنجاز”.
المدير المتسلط، وتراكم أعدد الموظفين أحد أبرز أسباب ظاهرة الاغتراب الوظيفي
(إن أحد أسباب شيوع هذه الظاهرة متصل بكثرة أعداد المرؤوسين، وصعوبة السيطرة عليهم؛ وبالتالي صعوبة تلبية الرؤساء والمديرين لاحتياجات موظفيهم وتفهم مطالبهم). هذا ما يراه محمد الحمزة، مستشار متخصص في مجال تطوير بيئة العمل في السعودية؛ إذ يقول: “الاغتراب ظاهرة نفسية واجتماعية في آن واحد، وهي ذات جذور تاريخية ممتدة، كانت قد ألقت بظلالها على مختلف الأزمنة من القرون والحُقب والعقود، وهي ليست مقتصرة على الجانب التنظيمي والإداري فحسبْ؛ لكون الاغتراب يُعبر عن حالة نفسية تعتري الإنسان من جرّاء عددٍ من الظواهر، أو القضايا، أو الأحداث والمشكلات التي تطفو على أسطح البيئة المحيطة به والمجتمع الملازم”.
وتضيف لذلك الإسماعيلية قائلة: “هناك دور أساسي للمديرين والرؤساء المباشرين في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية للموظفين ودعمها، من جهة أخرى هناك العديد من الفوائد التي يجنيها أصحاب العمل من هذا الدعم من خلال بناء قوة عاملة متعاونة ومنتجة يكون أداؤها في أفضل حالته بغض النظر عما يُفرض عليهم من المهام، وبالإضافة لذلك رعاية الموظفين من الناحية النفسية واجب أخلاقي مفروض على أرباب العمل، ويرى بعضهم أن من أهم أسباب الاغتراب الوظيفي يكمن في وجود مدير متسلط لا يعير الموظف أي قيمة أو اهتمام؛ مما يؤدي إلى فقدان الشغف والنظر للجهود على أنها مهدرة، ناهيك عن الصراعات التي تحصل بين الموظف والمسؤول”.
الشركات تصدّر الاغتراب كمنتج
ولعل أبرز الآثار الناجمة عن هذه الظاهرة، ما تذكره أمل اليربوع، محررة صحفية بقسم التواصل والإعلام بوزارة التربية والتعليم؛ من أن الاغتراب في بيئة العمل يولد شعورًا بالتقصير والعجز. وفي هذه الحالة، يشعر الموظف بأن وظيفته ثانوية لا يستطيع من خلالها تقديم الأفكار الإبداعية. وتضيف قائلة: “إن الاغتراب بمثابة المنتج التي تصدره الشركة للمستهلك، والاغتراب عن الإنتاجية، والاغتراب عن الزملاء، وأخيرا الاغتراب الذاتي الذي ما إن يصل له الموظف حتى يجد المسؤول المباشر أوراق طلبات النقل، والرغبة في التدوير الوظيفي، وتقديم الاستقالات؛ وهنا يجب عليه أن يقوم باحتواء الموقف، وإعادة تهيئة النفسيات المحترقة من خلال منح الموظفين الثقة والمسؤولية والتشجيع، وتقدير القدرات، وتحقيق العدالة والمساواة بينهم في الفرص، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التقليل من شأن أفكارهم التطويرية، ومقترحاتهم، وتقبلها، والعمل على تعديلها إلى أن تصل بالصورة التي تعبر عن أصل الفكرة وغاية المسؤول”.
كيف نواجه الاغتراب الوظيفي؟
يجيب الشمري عن هذا السؤال قائلا: يجب أولا على القادة الإداريين، وكل من ينطبق عليه لقب “مسؤول” في المؤسسات أن يستخدموا سياسة “الباب المفتوح” من خلال عقد اللقاءات والاجتماعات الدورية مع الأفراد العاملين بهذه المؤسسة من أجل سماع مقترحاتهم، والإصغاء إلى شكاواهم، وتفهم مُشكلاتهم، وإشعارهم بأن القائد والمدير هو فرد منهم وسلطته نابعة منه، كما ينبغي للإدارة العليا ومديري الموارد البشرية مراجعة سياسة التعويضات والرواتب والأجور المالية، وبقية المزايا التي تُقدم لأفراد رأس المال البشري في المؤسسة؛ وذلك وفق قيمتي: العدالة، والمساواة في البيئة التنظيمية.
ويرى الشمري أن على المؤسسات تشجيع الأفكار والأجواء الإيجابية تجاه العمل والبيئة التنظيمية؛ إذ يساهم هذا مباشرة في تقبّل العمال وإقبالهم على العمل في المؤسسة، وتعد عملية التفاعل الاجتماعي أساسا لموجهة هذه الظاهرة، والتي تعني اللقاءات غير الرسمية بين العُمال في بيئة العمل؛ كلقاءاتهم في الكافتيريا عند فترات الاستراحة، أو اللقاءات خارج بيئة العمل، واجتماعهم في المناسبات المختلفة، كالمناسبات الوطنية والاحتفالات أو الأعياد وغيرها.
خطوات عاجلة
وبالنسبة للمستشار محمد حمزة فإن احتواء هذه المشكلة يأتي من قبل القادة وصُناع القرار في المنظمات وجهات العمل؛ إذ يجب مراجعة سياسة التعويضات والرواتب والأجور المالية والتحفيزات المعنوية، وبقية المزايا الممنوحة للعمال؛ وذلك وفقًا لقيمة المساواة في اللوائح التنظيمية.
وفي الوقت الذي تبرز هذه الظاهرة يوما بعد يوم، فإن الجهد ينبغي أن يكون منصبا على استقرار الموظفين الوظيفي والمهني جنبا إلى جنب مع نمو المؤسسات المهنية وتطور أعمالها وتحقيقها للنجاحات.