مقالات أخرى

دور النقابات العمالية في تحقيق الأمان الوظيفي

 إذا ما أردنا تبسيط علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل؛ فيمكننا وصفها بأنها مقايضة بين طرفين طلبًا للمنفعة؛ فصاحب العمل منفعته بالإنتاج وزيادة الربح، ويمتلك في ذلك المال وينقصه الجهد والخبرة التي يمتلكها العامل والذي بدوره يقايض بها من أجل الحصول على المال والعيش الكريم، وبذلك يجب النظر لعلاقة العمل على أنها علاقة طرفي الإنتاج التكاملية المتكافئة، ويصبح زيادة الإنتاج هدفًا للعامل كما هو هدف لصاحب العمل؛ فكلما زاد حجم الكعكة ازداد نصيب العامل منها.

إن الشعور بالظلم والاضطهاد والعمل بظروف قاسية غير لائقة وطغيان الطرف الأقوى من طرفي الإنتاج – صاحب العمل- على الآخر كانت هي الشرارة التي أطلقت الثورة الصناعية والتي ثار فيها العمال؛ ليحافظوا على كرامتهم وتأمين لقمة عيشهم، ولقد كان من ثمرة هذه الثورة نشوء النقابات العمالية التي حملت لواء الدفاع عن العمال وصيانة حقوقهم ومكتسباتهم.

لقد سقطت كل النظريات التي تتحدث عن ضرورة إبقاء العامل تحت الضغط؛ ليعطي كل ما عنده بل على العكس؛ فإن الثابت أن الحالة النفسية للعامل تشكل ما يمكن وصفه بأنه “هرمون العمل”؛ فكلما تحسنت الحالة النفسية وشعر بالاستقرار زاد إنتاجه وتحسن أداؤه.

الأمان الوظيفي يحتاج قوة تحميه؟

إن من الشعارات التي طالما يتداولها الحقوقيون بشكل عام والنقابيون بشكل خاص هو أن “الحق ينتزع انتزاعا”؛ فالطبيعة البشرية غير المنضبطة بدين أو أخلاق أو مبادئ والتي حدثنا عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تعمل ضمن قاعدة “إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى”، فترى بعض أصحاب العمل يبدأ طغيانهم على العمال بالظهور فور شعورهم بإمكانية الاستغناء عنهم خاصة إذا ما كان هؤلاء العمال “مكشوفي الظهر” لا سند لهم.

يمكن تشبيه العمال المنفردين كأعواد الرماح المتفرقة إذا ما كانت منفردة متشتتة بقيت على ضعفها وكانت فريسة “طغيان” أصحاب العمل؛ فالنقابات العمالية هي التي تجمع هذه الطاقات المتفرقة؛ لتكون منها ما يسمى بقوة العمال التي تمكّنها من انتزاع الحقوق والحفاظ على المكتسبات.

 النقابات العمالية والتشريع

إن السلاح القوي والمستدام الذي يمكن للنقابات العمالية استخدامه في مواجهة شبح التسريح ولتحقيق الأمان الوظيفي للعمال هو تعديل التشريعات الوطنية بما يتناسب مع الاتفاقيات الدولية وحقوق الانسان؛ مما يوفر بيئة عمل آمنة للعمال تمكنهم من تحصين وظائفهم والحفاظ على أجورهم وإبعاد شبح البطالة من  عقولهم؛ فالدولة تضبط إيقاع مواطنيها بالتشريعات الراسخة، ولعل من أبرز أدوار النقابات العمالية في خلق بيئة عمل آمنة وتحقيق الأمان الوظيفي للعمال هو إيجاد تشريعات وطنية تحفظ لهم هذا الحق وتبسُط التوازن والاستقرار في عالم  العمل؛ فباستقرار عالم العمل يزيد الإنتاج  وتقل البطالة ويتحقق السلم المجتمعي ويلتفت العمال وأصحاب العمال إلى دورهم الأساس في تنمية بلدانهم.

  في الانتساب قوة 

النقابات هي القلاع الراسخة الحصينة التي يلوذ إليها العمال ابتغاء استرداد حقوقهم والحفاظ على مكتسباتهم؛ فبقوة هذه النقابات تتمثل قوة العمال.

إن قوة النقابات العمالية الفعلية تكون على الأرض من خلال استجابة العمال لبياناتها وتوجيهاتها والإضرابات السلمية التي تدعو لها، وإن أبرز مؤشر على قوة هذه النقابات هو نسبة تمثيلها للعمال؛ فكلما ازدادت نسبة انتساب العمال للنقابات العمالية يدرك صاحب العمل أن هذه النقابات تُعبّر حقيقة عن إرادة العمال وتحوز ثقتهم وتملك الحديث باسمهم.

من الناحية الواقعية لا يمكن أن نصل إلى حالة انسجام تام بين عموم العمال والنقابات العمالية، لا سيما أن القيادات النقابية يتم اختيارها بالانتخاب المباشر من العمال؛ وبالتالي فإنه من الطبيعي جدا أن يكون هناك اختلاف وجهات نظر بل وتيارات وتوجهات مختلفة داخل النقابة الواحدة، ولكن إدراك العمال أن تحسين أجورهم والحفاظ على حقوقهم وتحقيق الأمان الوظيفي لهم مرتهن بقوة  نقابتهم؛ فإنهم سيلتفون حولها ويكونون داعمين لقراراتها.

الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية 

إن الصورة النمطية المنطبعة عن النقابات العمالية أنها نقابات لا تتقن إلا الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات، ومع التأكيد أن  الإضراب هو حق عمالي نقابي كفلته الاتفاقات الدولية إلا أن هذا الحق يجب التعامل معه من خلال قاعدة ” آخر العلاج  الكي”؛ فاللغة الحضارية في إنهاء الخلافات في عالم العمل هي الحوار الاجتماعي الذي يعد الوسيلة المثلى للدخول في مفاوضة جماعية بين أطراف  الإنتاج على مبدأ “رابح رابح” فتتحقق المصلحة العامة ويضمن صاحب العمل زيادة الإنتاج ويستقر العامل في وظيفته وتطمئن بها نفسه وترتفع إنتاجيته.

تسعى دول العامل إلى مأسسة الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية المكفولين في اتفاقيات العمل الدولية، وبما أننا نتحدث عن المأسسة والمؤسسية فإن هذا الأمر يتطلب كيانا كياناً عمالياً نقابيا يتقن هذه الفنون ويستثمرها ويبني عليها، ومن أحق من النقابات العمالية في تمثيل إرادة عمالها والتحدث باسمهم والتفاوض وتحقيق أمانهم الوظيفي.

عقود العمل الجماعية

إن ما يجب أن ينتبه له ممثلو العمال هو عدم التماهي في الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية بدون خطة مسبقة ومدروسة ومقررة؛ حتى لا نقع في مطب التفاوض من أجل التفاوض والحوار من أجل الحوار.

إن ثمرة الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية التي تقودها النقابة باسم العمال يجب أن تفضي إلى إبرام عقود عمل جماعية  تمنح الحقوق العمالية  المقررة القوة القانونية التي لا يستطيع صاحب العمل التنكر لها في المستقبل وتكون ملزمة للطرفين، ومن هنا وجب على النقابة  العمالية إدراج بنود محددة وواضحة في عقود العمل الجماعية التي تتفاوض من أجلها تتعلق بالأمان  الوظيفي؛ فلا يترك الأمر لمزاجية صاحب العمل أو حتى خلفه القانوني -في حال تم بيع  المنشأة على سبيل المثال- ؛ فبفضل عقود العمل الجماعية يطمئن العمال أن صاحب العمل ومن سيخلفه ملتزمين بقوة القانون وبفضل  العقد الجماعي الذي أبرمته لهم نقابتهم.

#اقتباس:

“إن إدراك العمال أن تحسين أجورهم والحفاظ على حقوقهم وتحقيق الأمان الوظيفي لهم مرتهن بقوة نقابتهم؛ فإنهم سيلتفون حولها ويكونون داعمين لقراراتها”.

تصعيد وحصانة

إن المتابع للشأن العمالي والنقابي وسوق العمل ليعلم علم اليقين أننا عندما نتحدث عن الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية والعمل اللائق وغيرها من العناوين الجميلة والبراقة؛ قد تصطدم في كثير من الأحيان بعوائق كثيرة توجه رياح الحقوق العمالية بغير ما يشتهي العمال أو تشتهيه نقابتهم العمالية؛ فالواقع يقول أن الحوار قد يصل إلى طريق مغلق والمفاوضة قد تولد ميتة وأن الحديث عن عقد عمل جماعي هو من باب الترف الفكري في ظل تعنّت بعض أصحاب العمل وتعسفهم في استخدام النصوص القانونية.

إن خوف العمال على وظيفتهم وقلقهم الدائم للحفاظ عليها وفي ظل عدم وجود نقابات عمالية قوية تدافع عنهم ليدفع بالعديد منهم إلى قبول العمل في بيئة عمل غير آمنة لا يتحقق فيها شروط العمل اللائق بل ووقوعهم ضحايا للعمل الجبري.

كنا قد تحدثنا في هذا المقال عن قوة العمال وأدوات التصعيد التي يملكونها للدفاع عن حقوقهم، ولكن العامل لن يغامر بالتصدي لصاحب العمل والدفاع عن بقية العمال حتى لا يكون كبش فداء؛ فترى العمال من انكسار إلى انكسار ومن خوف إلى خوف.

إن اللجوء إلى التصعيد وإحداث الضجيج لا يحتاج فقط إلى جرأة وصفات قيادية لدى بعض العمال؛ ولكنه يحتاج أيضًا إلى حصانة تمنع صاحب العمل من معاقبته بسبب نشاطه النقابي، ومن هنا  تأتي أهمية انتساب العمال للنقابات العمالية التي ستدافع عنهم وتهيئ لهم الغطاء القانوني للتصعيد وتمنح القيادات العمالية النقابية حصانة مكفولة من الاتفاقيات الدولية.

إن الحق يحتاج إلى قوة تحميه، والعامل بحاجة إلى ركن شديد يركن إليه، ومجاديف الظلم بحاجة إلى أمواج عاتية تحطمها، وقد آن الأوان ليعلم العمال أهمية النقابات العمالية بالنسبة لهم بل وأهميتهم في قوتها وتعزيز مكانتها؛ فإن شعروا بأن من يعتلي سدة القيادة فيها قد حرفها عن مسارها لم يتخلوا عنها بالانسحاب والانكفاء بل سارعوا إلى ردها إلى جادة الصواب بانتخاب قيادة جديدة تعبر عن إرادتهم وتعيش ظروفهم وتحافظ على حقوقهم.

حاتم قطيش

00692786875154

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى