حول جدوى التغطيات العمالية وفرصها
إعداد: سمية اليعقوبية
سبتمبر 2020
يواجه عالمنا اليوم الكثير من التحديات المتصلة بقدرة وسائل الإعلام على تتبع الحالة العمالية والنقابية لا سيّما مع الارتفاع المتزايد للمؤسسات ونظم الأعمال والأنشطة الاقتصادية؛ وبالتالي انعكاس ذلك على مستويات العمل النقابي، وتنامي منظومة الأعمال وتعددها من جهة؛ ثم الممارسات المتصلة بالتعامل مع العمال وتوفير حقوقهم وإرساء نظام عادل؛ لتمكينهم في المؤسسات المختلفة من جهة أخرى، وبما يحمي استقرار الوضع العمالي والنشاط النقابي المتزامن معه في البلاد. إنّ النظر في مستويات العمال وحاجاتهم لوسائل الإعلام يطرح سؤالًا مقابلًا يرتبط بتحقق الفرص لوسائل الإعلام؛ لتغطيات الحالات العمالية، وتقصي الوضع النقابي والعمالي والممارسات المهنية المتجسدة واقعًا ضمن منظومة العلاقة الواقعة بين أدوار الإعلام في التغطيات الاقتصادية والأدوار الاجتماعية والإنسانية المرتبطة بتتبع السلوك الإنساني ونظم المجتمعات؛ ولذلك تحاول هذه المقالة أن تستدعي الاهتمام بوضع توازن حقيقي بين حاجات العمال أنفسهم من وسائل الإعلام، وما يمكن أن يشكله هذا الأمر من آفاق وموضوعات تحقق الثراء لمضامين هذه الوسائل.
تستكين وسائل الإعلام لسلطة المؤسسات والشركات، ويبدو أنّ لذلك جذورًا قديمةً تتصل بالتكوين الهيكلي لوسائل الإعلام المتأثرة بسلطة التمويل الإعلاني في حالات كثيرة، فضلًا عن كون هذه المؤسسات والشركات تشكل لتغطيات وسائل الإعلام؛ وذلك عن طريق نشر أخبارها وأنشطتها وجهودها المقننة لخدمة مصالحها في محاولة لتتبع حالة النمو الاقتصادي والتجاري في البلدان، ما يمكن أن يحوّل وسائل الإعلام لأدوات منحازة لصالح مالكي هذه الشركات وأجندتهم التي تبقيهم بعيداً عن المساءلة. لا تتوقف إشكالية هذا النشر المحابي لهذه المؤسسات، وهذه العلاقة المتجذرة التي تربط كلا الطرفين على تقديم وسائل الإعلام لأطر محددة بشأن النشاط العمالي في مجتمع ما فحسب، بل تمتد آثار ذلك عند التفكير فيما تتركه معالجات وسائل الإعلام، وتنميطها المستمر للمؤسسات والأفراد من ذاكرة حقيقية يصعب من خلالها لاحقًا مواجهة هذه الكيانات والتيارات المتضخمة ماليًّا وسلطويًّا بالنقد والتساؤلات والمعايير الحقيقية للمحاسبة عبر وسائل الإعلام.
لم تحظَ مسيرة وسائل الإعلام في بلداننا بالكثير من النجاحات والإنجازات لصالح العمل النقابي والعمالي؛ ولهذا السبب قاد ذلك الكثير من المؤسسات والجهات بل والأفراد النشطين إلى التفكير في قوة بديلة تمكن هذه التيارات المهمة اجتماعيّا واقتصاديّا من الوصول للجمهور، وتلبية متطلبات العمال الاتصالية المختلفة، وأصبح من المهم تجاوز قيود حراسة البوابة التي تسيطر على وسائل الإعلام الاحترافية، والتفكير فيما يمكن أن تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي كأدوات فعالة للنشاط النقابي والحراك العمالي. غالبًا ما يجد العمال أنفسهم واقعين في أزمة حقيقية عندما يتصل الأمر بالتعبير العمومي عن حقوقهم ومطالبهم؛ إذ تتراجع أدوار وسائل الإعلام الاحترافية عن التعبير عن قضاياهم وتختفي خلف ما يمكن وصفه “بالرغبة في تتبع النشاط الرسمي للمؤسسات “بعيدًا عن تعبيرات الأفراد المتأثرين بالقضايا والمهمومين بتدني الحقوق العمالية في مؤسسات الأعمال؛ ولهذا السبب سيجد العمال أنفسهم مدفوعين للتعبير عبر صفحاتهم الذاتية ومدوناتهم الخاصة عن وقائع محددة خارجة عن إطار النقل الصحفي الحرفي، ومتجاوزة للسرديات الموضوعية، ولكنها تبدو مهمة في سياقها الاجتماعي والاقتصادي لتجسد حالة العوز والحرمان وغياب العدالة والتضييق على الحريات. أضف لذلك، ما تؤكده هذه القصص الفردية في واقعها على حالة من الممارسات، والتجاوز الفعلي للقوانين والنظم الإنسانية التي يمكن أن تتطور لتشكيل تراكمات كثيرة من المخالفات المهنية والقانونية؛ وبالتالي انهيار البيئة الجاذبة للأعمال في تلك البلدان. وسنجد كيف تحاول الشركات والمؤسسات طمس معالم هذا التعبير وتضييقه؛ إما بالتضييق على المعبرين خلف شاشات هواتفهم في شبكات التواصل الاجتماعي من خلال استحداث النظم الإجرائية والقانونية المجرمة لهذا السلوك أو الدفع بممارسات إدارية كثيرة للتخويف والترهيب قد تصل للفصل من العمل أو المحاسبة الإدارية في أضعف الحالات. يدفعنا هذا الأمر للتفكير في الجدوى الحقيقية من تعبير العمال عن قضاياهم وموضوعاتهم أمام هذه المستجدات الواقعة والسياسات المؤطرة للتعبير عن هذه الشبكات؛ وبالتالي التفكير مرة أخرى حول مسؤوليات وسائل الإعلام المحترفة وأدوار الصحفيين الممارسين لمهن الإعلام بمختلف وسائله وأدواته في مد الجسر الاتصالي الدائم اللصيق بالحالة العمالية، وما تحدثه من تطورات ومستجدات متكررة.
تتأثر التغطيات العمالية باعتقادات الصحفيين المسبقة إزاء الواقع العمالي. وتساهم بعض هذه الاعتقادات بشكل أساسي في التقليل من عمق المعالجة الإعلامية والصحفية للمتغيرات العمالية، ووقوع الصحافة ووسائل الإعلام في جملة من المغالطات المرتبطة بالواقع العمالي. إحدى هذه الاعتقادات لدى ممارسي مهن الإعلام تتصل بما يرونه معقدا إزاء الحالات العمالية للدرجة التي لا يمكن بعدها إحداث تغيير حقيقي في الحالات التي تقع بيد وسائل الإعلام، ومرد هذا الأمر إلى ارتباط الحالة العمالية بالنشاط الاقتصادي وحاجة المؤسسات الإعلامية إلى صحفيين متمرسين في الإعلام الاقتصادي، إضافة إلى الكم الهائل من المعلومات التي تختبئ خلف الحالة العمالية والمتصلة بأداء المؤسسة وأوضاعها والأرقام المعبرة عن نشاطها الحقيقي. يستغني الصحفيون عن دوافعهم الحقيقية إزاء متابعة الحالة العمالية وتقصيها بكامل أبعادها، ويرجعون الأمر للمصادر الرئيسية للمعلومات، وهذا الأمر مصيري ومربك؛ لأنه يحسم أدوار الإعلام العمالي في نقل الصورة الكاملة. لا يؤسس هذا الاعتقاد على أرضية صلبة تتعامل بوعي مع ظروف الواقع العمالي؛ إذ أن المتابع للحالة العمالية سيجد تكررًا واضحًا في السياسات والممارسات التي ينبغي تصعيدها عبر وسائل الإعلام؛ وبالتالي وقوع المؤسسات والشركات في ذات الأخطاء والمخالفات العمالية والقانونية؛ حتى وإن تشكلت ثمة تباينات في الدوافع والأسباب التي أدت لوقوع هذه الممارسات؛ وعلينا هنا أن نستدل بمثال محلي بارز في هذا السياق وهو تكرار ظاهرة الفصل للعُمانيين بعقود مؤقتة في المؤسسات والشركات العُمانية. إذ تشير الأرقام المتوفرة لدى الاتحاد العام للعمال إلى تكرار هذه الحالات في عام 2019 لأكثر من 33 حالة شكوى جماعية، ولما يصل إلى 10 آلاف عامل مسرح من عمله خلال الفترة من 2014 إلى 2018. إنّ حالة التكرار المستمرة والدوافع الدائمة المتشابهة إزاء هذا الفصل بوسعها أن تؤكد للصحفيين على أهمية تغطية الحالات الفردية بالتوافق مع تكوين مرجعية معلوماتية رصينة؛ لتحقيق تعمق أكبر في التغطيات الصحفية المقدمة إزاء هذه القضية.
الاعتقاد الثاني السائد بين الصحفيين يتصل بصعوبة تحقيق فهم مستمر للحقوق العمالية بناء على تعقد الحالات القانونية المختلفة وارتباطها بمستوى الأعمال؛ ولهذا السبب تستدعي حاجة الصحفيين المستمرة للبحث خلف الجوانب القانونية والحقوقية اللصيقة بالحالات العمالية واستدعاء آراء المتخصصين في الوضع الحقوقي والقانوني،الأمر الذي يقتضي جهدًا مضاعفًا لفهم الواقع القانوني أكثر من ذلك المقدم في تغطيات الظواهر الاجتماعية المجتمعية الأخرى. يقودنا هذا الأمر إلى التمعن في أهمية تعزيز المناخات الصحفية المتتبعة للحالات العمالية بمسودة القوانين والنظم المحلية والعالمية المرتهنة للحالة العمالية وضرورة التأكيد على دور ممارسي المهن الصحفية والإعلامية في الربط بين الاحتياجات الصحفية لنقل الظواهر والقصص العمالية وبين ربطها بالجوانب القانونية والحقوقية في كل مرة.
إن تشكيل أرضية معلوماتية وقائمة متعددة من المصادر الداعمة للمنتجات الصحفية العمالية أمر بالغ الأهمية؛ إذ لا يتوقف دور ذلك في تقديم الدعم اللازم للتغطيات الصحفية بل مدّ الصحفيين بالكثير من المعالجات اللازمة لتغطية الجوانب الصحفية العمالية المتعددة؛ ولهذا السبب يمكن اقتراح بعض المعالجات الصحفية الأساسية في تغطية الواقع العمالي لبلد ما، وهي كالآتي:
- المعالجات التي تربط بين الأداء السنوي المثالي للشركات، وعلاقته بالممارسات الواقعة في الإطار المهني والعمالي في هذه الشركات والمؤسسات.
- قصص العاملين وظروف عملهم -وإن كانت حالات فردية- تحتمل أن تقدم ضمن قالبها الضيق والمحدود للتعبير- عن إمكانية تكرار مثل هذه القصص والظروف لحالات أخرى مشابهة.
- مساحات مخصصة للحديث حول الحياة النقابية والعمالية: وهي الصفحة الأجدر بها أن تتحقق على مستوى الصحافة التقليدية الإلكترونية بالنظر إلى التقلبات اليومية في الحياة العمالية والمكاسب الوظيفية للنقابات العمالية على اختلاف تنظيماتها وتكويناتها.
- المرأة والمجال المهني والوظيفي: لطالما شكل حضور النساء في المجالات المهنية فرصة للحديث عن موضوعات متعددة بينها معدلات انصاف النساء والتحقق الوظيفي لهن، وعلاقة السياسات الإدارية بالفصل بين الجنسين والتمييز الجنسي، ومستوى تحقق الحياة الوظيفية للنساء في ظل التزاماتهن المهنية والوظيفية والجوانب المرتبطة بذلك فيما يتصل بنظام الأجور والساعات الخاصة بالعمل وساعات الرضاعة والانتقالات الوظيفية وغيرها.
- المراجعات القانونية: لعمق الظاهرة العمالية وتأثر القوانين بها؛ وهو ما يستدعي مراجعة ونقد القوانين المنظمة لبيئة الأعمال، ومستوى ملاءمتها مع التطورات المختلفة.
- قصص العمل وفق الظروف والظواهر الاستثنائية: إذ تشكل ظواهر – من قبيل الكساد الاقتصادي، والتضخم في الأسعار، وانهيار الاقتصاد بل والظروف الاجتماعية والصحية المختلفة مثل انتشار الأوبئة- فرصة سانحة لتتبع تأثر الحالة العمالية والحقوقية للعمال في ظل هذه الظروف والنظر لمستوى التأثر العام بها من منظور عمالي وحقوقي.