فجوة الثقة في الكفاءة العمانية تراكماتٌ تبحث عن حلول مقنعة
د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية، مجلس الدولة
ينطلق تناولنا للموضوع من فرضية فجوة الثقة التي تواجهها القوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص من الشركات والمؤسسات الصغيرة منها والمتوسطة، والتراكمات المجتمعية والمؤسسية التي باتت تؤسس لهذه الثقافة، وتبرز حضورها اليوم رغم الجهود والمبادرات التي انتهجتها الحكومة في العقود الماضية في إطار خطط الإحلال والتعمين، وما تبعها من مبادرات قطاعية، ضمِنت في تلك الفترة قبول المواطن للعمل في القطاع الخاص، وجملة الحزم التطويرية والتحفيزية والتأهيلية والتدريبية التي ساهمت في استقرار القوى العاملة الوطنية، واستشعارها بجدية الحكومة في جعل القطاع الخاص الشريك الاستراتيجي الإستراتيجي لها في تحقيق الاستدامة الاقتصادية والمالية للدولة، غير أن التحولات الأخيرة، المرتبطة بارتفاع أعداد الباحثين عن عمل من المواطنين في مختلف التخصصات الهندسية، وتقنية المعلومات وإدارة الاعمال، مع الزيادة الحاصلة في أعداد الأيدي الوافدة في القطاع الخاص، بالإضافة إلى اتساع ظاهرة التسريح للقوى العاملة الوطنية من الشركات ومؤسسات القطاع الخاص مع عدم وجود الضمانات التي تمنع هذه المؤسسات من اتخاذ قرار التسريح، مستغلة لتبرير إجراءاتها، الأزمة الاقتصادية العالمية، وما فرضته جائحة كورونا من تحديات، يؤكد أهمية البحث عن حلول وطنية، مقنعة، تعالج هذا الوضع معالجة مستديمة وواقعية، وتضع الحلول العملية التي تحفظ حق المواطن، وأولويته في العمل في هذا القطاع، وبما يؤدي وجوده فيه إلى تحقيق المنافسة والإنتاجية.
والحديث عن استمرار هذه الصورة الذهنية السلبية، وثباتها في قناعات البعض -رغم تغير الظروف- إنما تعبر عن تراكمات نفسية واجتماعية واقتصادية وأزمة ثقة على المدى البعيد، منها ثقافة التعليم ذاتها بما ترسخه في ذهن المتعلم من قيمة العمل الحكومي والوظيفة الحكومية المكتبية، وتعظيم قيمة الشهادة الجامعية أو غيرها مما يحصل عليه الخريج من مؤهل، باعتبارها الغاية الكبرى والهدف الأسمى من التعليم؛ مما أفقد جانب المهارة والتمهين حضوره في مخرجات التعليم، بالإضافة إلى قلة وجود الدراسات التشخيصية التي تعطي صورة واضحة حول هذا القطاع، وتشخّص أدائه، وتضبط موارده، وتعالج تحدياته وصناعته للوظائف أو مواءمة مخرجاته مع المهن والوظائف والمهارات التي يحتاجها سوق العمل، وتحديد الاحتياجات الوطنية من التخصصات المهنية والفنية والأكاديمية والهندسية والتخصصية؛ مما ساهم في زيادة المعروض من القوى الوطنية ذات الكفاءة العالية من مخرجات التعليم مع قلة الطلب عليها في القطاع الخاص في ظل عدم قدرة سوق العمل على استيعاب أفواج الخريجين من التخصصات العلمية والتطبيقية والمهنية، ناهيك عن تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها، إضافة إلى ذلك يأتي دور الثقافة المجتمعية المتداولة في المجالس واللقاءات الأسرية، والنظرة الاجتماعية للوظيفة الحكومية التي اتخذت بعدا آخر، يقوم على اعتبارها نوعًا من الرفاه الاجتماعي والتفاخر الأسري والقبلي، بالشكل الذي عزز من أسلوب المقارنات المجتمعية بين القطاعين؛ بالإضافة إلى تدني وجود آلية وطنية في استيعاب القطاع الخاص للطلبة ممن هم في سن الدراسة في تعلم بعض المهارات والأفكار وآليات العمل في مؤسسات القطاع الخاص، واتجاه التدريب بشكل أكبر نحو القطاع الحكومي، الأمر الذي عزز من المقارنات التي بات يضعها رجال الأعمال وأصحاب الشركات بين المواطن والعامل الوافد، متناسين ما يواجه المواطن من التزامات وظروف ومتغيرات في مجتمع يكون فيه موظفا بجانب كونه أيضا أبا أو أما أو ولي أمر، ومسؤولًا عن رعاية أبناء، ولديه أقساط بنكية، والتزامات اجتماعية وأسرية وغيرها، بالإضافة إلى ما سببته الذاتية والمصالح الشخصية من تغيير للكثير من قواعد العمل المهني والتوجهات الوطنية التي تضع العماني كأولوية، فيما تعبّر عنه ممارسات بعض الشركات من وجود الوافد في سلم الهرم، والذي عزز من هذه النظرة السلبية للموظف العماني ومنح المجال لاستقدام الأيدي الوافدة رغم وجود المواطن العماني الكفء الباحث عن عمل.
لقد شكلت هذه التراكمات عقدة في طموح المواطن العماني، وعائقًا في حركة الوعي والعطاء والمبادرة والإنتاجية لديه، وأثنته لدرجة ما عن الالتحاق بهذا القطاع، خاصة في ظل استحواذ الأيدي الوافدة على الوظائف الأساسية والهندسية والإدارية العليا والفنية التخصصية، الأمر الذي كان له أثره في توجيه أنظار المجتمع إلى القطاع الحكومي كأولوية في التوظيف والعمل، إذ أظهرت نتائج المسح التي قام به المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول توجهات الشباب العماني للعمل عام 2019 ، إلى أن الغالبية العظمى من الشباب العماني لا زالوا يفضلون العمل في القطــاع الحكومي؛ إذ كانت أعلى نسبة لتفضيل القطاع الحكومي لدى الباحثين عن عمل بنسبة 87%، وطلبة التعليم العالي بنسبة 76%، ثم المشتغلون بنسبة 75%، الأمر الذي يأتي في ظل استمرار تزايد أعداد الباحثين عن عمل؛ إذ أوضحت بيانات التعداد الإلكتروني لعام 2020 إلى أن عدد الباحثين عن عمل المحدثين لبياناتهم في السلطنة بلغ 65.438 باحث عن عمل ، منهم 40.879 من الإناث، و24.559 من الذكور؛ إذ تركز العدد الأكبر من الباحثين عن عمل في الفئة العمرية التي تقل 29 عاما، بواقع 47.115 باحث عن عمل، منهم 20.400 من الذكور، و26.600 من الإناث؛ وهذه المؤشرات كلها تؤكد حجم المسؤولية التي تتطلب من القطاعات المجتمعية المعنية جهدا استثنائيا، وتبني سياسات أكثر نضجا واستدامة وعمقا وشمولية واتساعا وإجرائية في توجيه هذه المخرجات للقطاع الخاص.
من جهة أخرى أضافت ظاهرة تسريح العمانيين من القطاع الخاص – التي أخذت في الفترات الأخيرة سمة الارتفاع والزيادة غير المبررة- عبئا آخر على الحكومة في سياساتها نحو التوظيف والتشغيل؛ لتزيد الفجوة وتنتزع جذور الثقة التي سعت الحكومة خلالها إلى تقريب الفجوة الحاصلة بين القطاعين سواء في الإجازات وبيئة العمل والأنظمة والحوافز، ليعيد التسريح مسألة الثقة إلى المربع الأول، وتبدأ الحكومة من جديد في إقناع المواطن بالبقاء في القطاع الخاص وقبول العمل فيه، ناهيك عن الأضرار النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضها هذا الأمر على حياة المواطن، ليجد نفسه مسرحا من عمله بدون أي جريرة ارتكبها، لها علاقة بأدائه الوظيفي، الأمر الذي ساهم في زيادة فجوة الثقة، ووسع من مساحة النفور من العمل في القطاع الخاص، كما أصبح المواطن في هذا القطاع عرضة لسياسة فرض الأمر الواقع التي لم تستطع الجهود الحكومية أن تجد لها مخرجا واضحا، يمنع الشركات من تسريح القوى العاملة الوطنية؛ وبالتالي يصبح اليقين به والاعتماد عليه في ظل المستجدات الاقتصادية، وما فرضته اليوم جائحة كورونا من تحديات أمرا مشوبا بالحذر ومصحوبا بالقلق -رغم إيجاد نظام الأمان الوظيفي الذي قد يقلل التبعات الاقتصادية والالتزامات المالية للمسرّح من عمله- ولكنه لا يقطع دابر التسريح، وتبقى المسألة في أكثر الأحوال مرتبطة بمزاجية الشركات في استشعار البعد الإنساني والاجتماعي والوطني والأخلاقي وحس المسؤولية نحو المواطن أكثر من كونها مجرد تطبيق لقوانين تمنع الشركات من تسريح القوى العاملة الوطنية.
إن عمان وهي تستشرف مرحلة جديدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في رؤية طموحة، وأهداف نوعية، ومنهجيات عملية، ومرتكزات تضع في أولوياتها تحقيق رؤية عمان 2040، مرحلة يعاد فيها نمط التفكير، كما تعاد فيها الآليات والإجراءات والأساليب، لتقف على هذه التراكمات والتداخلات الحاصلة في ملف الكفاءة الوطنية في إطار التوظيف والتشغيل والتمكين، معالجات جذرية تأخذ في الحسبان محطات القوة ومسببات الفشل في الخطط السابقة، وعبر جملة من الإجراءات التنظيمية والتقنينية والتشريعية والتصحيحية والتمكينية التي تعيد للكفاءة العمانية هيبتها ومكانتها وموقعها في رسم خريطة الاقتصاد الوطني من خلال التأكيد على إعادة هيكلة القطاع الخاص والثقافة المجتمعية الموجهة نحوه، وعبر زيادة النماذج الوطنية الإيجابية الواعدة في صناعة التغيير، وإثبات بصمة نجاح لها في القطاع الخاص؛ ومراجعة فرص التمكين الممنوحة للشباب العماني في ظل تعقد الإجراءات والبيروقراطية التي ساهمت في الحد من طموحات الشباب العماني في هذا القطاع؛ بالإضافة إلى تفعيل القوانين الاقتصادية التي صدرت مؤخرا في العامين 2018 و2019 خاصة ما يرتبط منها بقانون الاستثمار وقانون منع الاحتكار، وقانون الشراكة والتخصيص، وقانون الإفلاس، وأن توجه جهود الحكومة نحو إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وإنشاء جهاز الاستثمار العماني، وخطة التوازن المالي، وخطة التحفيز الاقتصادي، وغيرها، إلى تطوير ثقافة العمل في القطاعين، منطلقة من مرتكزات الاستثمار في المواطن العماني وطموحاته، والمساحة التي تمنح له إثبات بصمة حضور له في واقع العمل؛ وألا تفتح التقاعدات الحاصلة في منظومة الجهاز الإداري للدولة الطريق لعودة الترهل لهذا القطاع بعد ترشيقه وتشذيبه وإعادة هيكلته، بل ينبغي أن يعاد النظر في أنظمة العمل الحالية في القطاع الخاص، وتعزيز نظم الحوافز والتقاعدات والصلاحيات والتدريب والتمكين في القطاع الخاص؛ لضمان إعادة الثقة فيه، ومراجعة نظم الإحلال للأيدي الوافدة، والتعمين في الوظائف العليا والهندسية والتخصصية والفنية، بالإضافة إلى إيجاد منظومة تقييم أداء مؤسسي تضع الشركات ومؤسسات القطاع الخاص ضمن هذه المنظومة خاصة في تقييم الموارد البشرية الوطنية وأدائها، والفرص والتحديات التي تواجهها، والحوافز والصلاحيات التي تمنح لها في بيئات القطاع الخاص، وتعزيز التشريعات والقوانين التي تنظم القطاع الخاص وتحفظ حق المواطن فيه من مزاجية القرارات، كما تعيد تقييم مستوى تطبيق هذه القوانين والتشريعات والتجاوزات الواقعة بشكل يضمن استدامة الثقة وكفاءة الإنتاجية.
أخيرا تبقى مسألة الثقة في الكفاءة الوطنية محصلة نهائية لتكامل الجهود وإدراك القائمين على الشركات ومؤسسات القطاع الخاص بمسؤوليهم لتوفير أرضيات نجاحها في ثقافة المؤسسة وبيئة العمل، بما تلتزم به من معايير في التعامل مع متطلباتها، والنظرة الإيجابية التي تبنى فيها حافز العطاء والإنتاجية.