التسريح والترهل وإقصاء الكفاءات مؤشرات لتدني مستوى الابتكار في العمليات المؤسسية
د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
في ظل ما تعيشه الوظيفة العامة سواء في القطاع الحكومي والخاص من تغييرات كبرى وتحولات في فلسفة عملها ومتطلبات أدائها؛ نتيجة الرصيد المفاهيمي والخبراتي العالمي، والتحولات الواقعة في سلوك المجتمع الوظيفي وطموحاته وتوقعاته حول المسؤوليات والواجبات والفرص والغايات المستقبلية التي يبني عليها الموظف آماله وطموحاته، ويقرأ فيها أولوياته وإستراتيجيات عمله، يأتي الابتكار كأحد الخيارات الفاعلة في علاج كومة التحديات التي ارتبطت بالتسريح والترهل الوظيفي وعقدة الإجراءات والتهميش أو الإقصاء للخبرات والكفاءات الوطنية في ظل ممارسات تقرأ في الابتكار سياسة فرض الأمر الواقع والوصاية على الموظف، مع إغفال كونه حقّا من حقوق الموظف، يضمن قدرته على الاستثمار الذاتي لطاقاته ومهاراته، وإعادة إنتاجها بطريقة أخرى، تحقق غايات المؤسسة من جهة، وتعلي من سقف توقعاته حول ذاته من جهة أخرى؛ ولذلك لا يصح أن ينظر إليه كحالة مزاجية للمؤسسات، تمارسه بحسب ما يتوفر لديها من مُلاءة مالية أو قيادة إدارية، تحمل في ذاتها روح الابتكار، بل كخيار مؤسسي، يجب أن يكون له حضوره في منظومة الأداء وثقافة العمل، كما لا ينبغي أن يختزل في وصف مادي محسوس، بل في حجم التأثير الذي يصنعه في سلوك الموظف، والممارسة اليومية التي تسري في ثقافة الموظف وسرعة إنجازه، وجدية مبادراته، وتقديره لموارد المؤسسة، واستعداداته الذهنية والفكرية والنفسية التي يأقلمها مع طبيعة التحولات الواقعة في فلسفة عمل المؤسسة واختصاصاتها، والشركات ومنتجها وعلامتها التجارية.
عليه؛ فإن قراءة المشهد الوظيفي في ظل الصورة القاتمة التي تولدت عن التسريح والإقصاء وغيرها من الممارسات الحاصلة، وتقييم ما يجري من مناورات على حساب الموظف المخلص المجتهد الأمين يعكس سوء توزيع المهام، والفاقد الحاصل بين الخبرة المهنية والأدائية للموظف وطبيعة المهمة التي يقوم بها، وهي استجابة لاختزال مفهوم الابتكار الإداري والوظيفي وشخصنته، وسطحية التعاطي معه، والقصور في التشريعات والقوانين التي تصنع للابتكار الوظيفي حضورا في عمليات البناء المؤسسي وتقييم الأداء المؤسسي، وتصحيح الأداء الفردي؛ وبالتالي ما يعيشه الموظف في ظل سلطة الذاتية التي تتجه إليها بعض القطاعات من خلال عمليات التهميش والإقصاء للأفكار والدوافع والمشاعر، وقلة الخيارات الممنوحة للموظف، والمساحة من المرونة التي تنشط لديه إستراتيجيات البحث والتثمير في الفرص؛ بحيث يصبح دوره أقرب إلى التكرار والتقليد دون أن يكون له حضور في جوانب التغيير والتصحيح، وإعادة هندسة الأفكار وتوجيهها إلى حاضنة العمل، وحجم الفجوة بين الموظف والبعد النوعي والروحي للإنجاز، عندما يصبح دوره مجرد تلقٍ للأفكار دون أن يساهم في إنتاجها أو يشارك في صناعتها؛ وفي المقابل الصورة الإيجابية الأخرى التي يمكن أن يكون عليها الأداء المؤسسي أن لو تحقق الموظف مستويات عالية من التقدير والاهتمام، والتثمير في فكره وخبراته ومشاعره معا.
وبالتالي؛ يعود بنا هذا الأمر إلى مسألة جدية الاستثمار في المورد البشري الكفء، وموقع العقل الإستراتيجي من المنظومة، والإجراءات الثابتة المعتمدة في المؤسسات والشركات في الاستفادة من الطاقات والفرص والخبرات والتجارب التي يمتلكها الموظف، وإعادة إنتاجها لصالح قوة المؤسسة وتعزيز إنتاجيتها، وتحقيق منتج يتسم بالكفاءة والنوعية، ليعود بنا الأمل في هيكلة هذا المسار وتصحيحه إلى بوصلة الابتكار، وتأصيل الفقه الابتكاري وإستراتيجياته في ثقافة العمل وبيئة الأداء وممارسة المسؤول الحكومي أو الرؤساء التنفيذيين ومن في حكمهم؛ إذ أن التثمير في هذه المساحة، وإعطاء هذا الأمر حقه ومستحقه من التقنين والتمكين والحوافز سيقلل بلا شك من الهدر الحاصل، ويعزز من فرص التجديد، ويصنع معادلة القوة في بثّ الحياة في الوظيفة وتعميق مساحات التأثير والاحتواء التي يمكن أن تقدمها في تقريب الصورة العامة للموظف ودوره فيها، ومسؤولياته في إعادة هندسة ممارسته الوظيفية بطريقة استثنائية، تحقق جملة من الموجهات والالتزامات والاستحقاقات المرتبطة بها؛ فمن جهة يتكون لديه انتماء مهني والتزام بالواجبات والمسؤوليات الوظيفية من حيث الدقة والأمانة والسرية والمحافظة على كرامة الوظيفة في تصرفاته، والانتظام في العمل والالتزام بمواعيده الرسمية، وتنفيذ التعليميات الإدارية الصادرة، ومن جهة أخرى يأتي بممارسات مبتكرة تفوق التوقعات، وتضمن المهنية في الأداء كالتميز والتفرد في الممارسة، وخلق فرص أكبر للتحول في السلوك الوظيفي عبر وعيه بالمفاهيم الإدارية والتنظيمية التي يدير بها مهامه الوظيفية، وموقعه في سلم الابتكار والتجديد والتسويق لبيئة العمل المؤسسي، وحضوره في كل محطاتها، والتقييم الذاتي المستمر لكل منجز يقوم به لقياس مستوى التناغم مع طبيعة المهام الوظيفية التي يقوم بها في ظل ثبات منظومة الحوافز والصلاحيات وغيرها من الممكِّنات.
إن الابتكار الوظيفي بذلك مسار آخر يضيف للوظيفة الحكومية والخاصة طابعها الجمالي وذوقها المتفرد بما تمنحه من مساحات التجديد والتفكير خارج الصندوق؛ فهو يضمن ضبط الممارسة الوظيفية وتقنينها وحسن توجيهها وتأطيرها؛ فيوفر الوقت والجهد والمال، ويعزز فرص تقديم منتج عالي الجودة، ومنجز إبتكاري، وفكرة واقعية رصينة؛ إذ عندما تنمو الصورة الابتكارية المتجددة لدى الموظف، ويجسّدها أسلوب حياة ومنهج عمل، ومبدأ وقيمه، وينتقل الموظف خلالها من حالة الرتابة وتكرار العمليات، وإرهاقه بالقوانين المقيدة للابتكار، إلى الدخول في العمق الوظيفي والاهتمام بشخصية الموظف، وصقلها بالتجارب والخبرات، وإدارة المشاعر، وتمكينها من التسويق المؤسسي، والثقة في المورد البشري الوطني، عندها تصبح الوظيفة مدخلا لتحقيق رؤية عُمان 2040، وترسيخ أجندة العمل الوطنية في التنويع الاقتصادي، والاستدامة المالية التي تركز عليه خطة التوازن المالي وخطة التحفيز الاقتصادي، وغيرها من التوجهات الوطنية ذات الصلة.
وعليه؛ فإن تحقّق هذا الطموح والنزول به إلى أرض الواقع يستدعي النظر في حزمة من الإجراءات التطويرية؛ بحيث تتبنّى منظومة الجهاز الإداري للدولة مسؤولية إعادة النظر في التشريعات المنظمة للوظيفة العامة وعمل الموظف، وأن يراعي قانون العمل المرتقب وغيره من القوانين العاملة في هذا المجال مسؤولية تدعيم قواعده وأطره وتشريعاته بمواد أكثر تفصيلا وعمقا وشمولا في حضور مفاهيم الابتكار وتطبيقاتها في سلوك الموظف، وإيجاد سلم تقييمي واضح ودقيق لها، من واقع الممارسة المهنية؛ فيضاف إلى واجبات الموظف ومسؤولياته مواد تتعلق بالتنافسية والابتكار وتعزيز وجود بيئة وظيفية مؤسسية داعمة للإنتاجية، تتسم بالمرونة والعملية في كل مراحل العمل، يجد فيها الموظف فرصته لالتقاط الأنفاس، والخروج من الرتابة إلى صياغة لحن جديد، ينقل بيئة العمل من حالة الرتابة إلى التجديد؛ بحيث تمتلك من فرص النجاح والتميز ما يصنع الحافز في سلوك الموظف وينتج الفارق في أدائه؛ فيتعلم منها مواقف داعمة لسلوكه المهني، ويستفيد من فرص التدريب والتـأهيل المتناغمة مع المسار الوظيفي ما يقوي شغف المبادرة لديه، وفرص التغيير وصناعة الإلهام في عاداته الوظيفية، وتبرز في الوظيفة مساحات التحول والتجدد والاتساع، على أن من بين المرتكزات التي تحتاجها عمليات الابتكار مستوى حضور الصلاحيات والحوافز المعززة للعمل الابتكاري، وقدرتها على تحريك دافع الشغف لدى الموظف في البحث والتطوير والتجديد وفق معايير عمل واضحة، تتفاعل مع أنظمة تقييم الأداء المؤسسي والفردي، وقياس فارق التوقعات الناتجة عن الممارسة وتأثيرها على الإنتاجية بما ينعكس على تنافسية المؤسسة وتفوقها في آليات العمل وصناعة القرار وبناء الموارد البشرية وطريقة إنجاز المهام وتوظيف التقنية في الخدمة المؤسسية وتوفر نظم المحاسبية وفق معايير واضحة وتوفير أدوات قياس للتعرف على مستوى التقدم الحاصل في الإنتاجية المؤسسية.
أخيرا فإن ما تعيشه منظومة العمل والتشغيل والتوظيف بالقطاعين العام والخاص من تحديات وطموحات وتهديدات وفرص يفرض على واقع منظومة العمل الوطني البحث عن موجهات أكثر أمانا في المحافظة على أداء الموارد البشرية الوطنية وفق سقف توقعات عالية، وبناء مزيد من الشراكة الفعلية الإستراتيجيّة مع القطاع الخاص والتسويق للكفاءة الوطنية؛ باعتبارها أحد المبادئ الرئيسية للبرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي الذي اعتمده مجلس الوزراء الموقر في نهاية أكتوبر عام 2021؛ الأمر الذي نعتقد بأنه سيعزز من ثقة مؤسسات العمل ورجال الأعمال في قدرة الكفاءة العمانية على إنتاج التحول وصناعة الفارق وامتلاكها زمام المبادرة والقوة في إحداث ثورة كبرى في الأداء؛ الأمر الذي سينعكس على إنتاجية هذه المؤسسات، وتصحيح النظرة الأحادية الضيقة التي باتت تنظر للكفاءة الوطنية؛ بالتالي تبنّي خطة البدء بالتجريب في بعض القطاعات، وتقييم التجربة عبر برامج تخصصية دقيقة، تقدم لموظفي الجهاز الإداري للدولة ومؤسسات القطاع الخاص وفق آلية وطنية واضحة، بما يضمن تحولات قادمة في إنتاجية الوظيفة العامة وتجددها؛ إذ أنّ دافعية الموظف ورغبته في الإنجاز المحترف سيقابلها سياسات احتواء مؤسسية وأنظمة حفز وتشجيع وأمان وظيفي، ومعايير أداء تضبط الممارسة الاجتهادية، وتشخّص السلوك، وتقيس مسار التقدم في أداء الكفاءات العمانية، وتحافظ على حقوقها في الترقيات والأمان الوظيفي والمكافأة وإثبات الذات.