الوصفة القرآنية لحفظ حقوق العمال في عقود العمل
حاتم قطيش، كاتب أردني
إن الحالة المتردية للعمال والضعف المستشري في الحركة العمالية أمام نفوذ أصحاب العمل وسلطتهم وقوتهم ما زالت تشكل حافزًا عند بعض أصحاب العمل لاستخدام نفوذهم وقوتهم للتعدي على الحقوق الإنسانية والعمالية؛ الأمر الذي دفع العمال خلال الثورة الصناعية للانتفاض أول مرة في وجه جبروت المال والنفوذ؛ فكانت النقابات العمالية.
لاشك أن سلب العمال حقوقهم من خلال تدني الأجور وغياب الحمايات الاجتماعية وعدم توفير بيئة عمل لائقة وتفشي العمل الجبري، بالإضافة إلى مصادرة حقهم في التكوين النقابي، كلها ممارسات بشعة ومرفوضة، ولكنها تمارس في كثير من الأحيان بعد إلباسها قناعا تجميليا اسمه عقود العمل؛ بحيث يحاول بعض أصحاب العمل قوننة الانتهاكات العمالية عن طريق عقود إذعان، مستغلين حالة الضعف والعوز التي يعيشها العمال لقبولهم بأجور ضعيفة والعمل ضمن ظروف غير لائقة.
فلسفة النقابات العمالية والاتفاقيات الدولية
اختلال موازين القوى أدى إلى اتساع رقعة الانتهاكات العمالية وتراجع الحريات والحقوق الإنسانية لدى العمال؛ فكان البحث عن وسائل لخلق حالة من التوازن، وإبراز قوة تضاهي قوة رأس المال؛ بحيث يمكن للعمال من خلالها رفض عقود الإذعان، بل والوصول على حالة تمكّنهم من وضع شروطهم الخاصة في عقود العمل.
لا شك أن وجود الاتفاقيات الدولية والنقابات العمالية الفعّالة تساهم في تحقيق هذه الغاية ولو جزئيا، من خلال سعيها إلى خلق حالة من التوازن في موازين القوى بين قوة أصحاب العمل ونفوذهم وقوة العمال للوصول إلى عقود عمل متوازنة.
إن وضع الدساتير والقوانين والاتفاقيات التي تعزز الحريات وتمنح الحقوق وتسعى إلى كبح جماح تغول رأس المال، لا شك أنها ساهمت بشكل كبير في تحسن بيئة العمل، وساهمت في ظهور التكوينات النقابية العمالية، ووفرت لها وسائل قوة تساعدها في خلق حالة التوازن المقصودة، ولكن يبقى الصراع والاشتباك قائمًا تارة؛ بسبب عدم كفاية هذه التشريعات، وتارةً أخرى بسبب عدم وجود إرادة حقيقية لدى أصحاب العمل لإنصاف عمالهم، وتارة أخرى بسبب ضعف النقابات العمالية وتفريغها من قوة العمال.
كيف حفظ القرآن للعمال حقوقهم في عقود العمل
إذا ما اتفقنا أن ممارسة الانتهاكات بحق العمال بشكل مقونن يكون أغلبها عن طريق عقود العمل، وإذا ما اتفقنا أيضًا أن غالبية هذه الانتهاكات تأتي من خلال عقود إذعان، يضطر فيها العمال إلى قبول الأجور المتدنية، والعمل في بيئة عمل غير لائقة، خالية من الحمايات الاجتماعية؛ كان لا بد من إعادة النظر في طريقة صياغة هذه العقود وضمان موافقة العامل على هذه العقود بكامل إرادته وحريته ومنحه حق إملاء شروط عقود العمل.
أشار الشهيد عبد القادر عودة في كتابه )التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي( إلى حق العمال في إملاء شروط عقود العمل بقوله : هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه، ولم يحقق بعضه الآخر، والذي يأمل العمال أن يتحقق كله إن قريبا أو بعيدا، هذا الحق قررته الشريعة الإسلامية كاملًا للضعفاء على الأقوياء وللملتزمين على الملتزم لهم، وجاء به القرآن في آية الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}”.
ويضيف عودة أن وجود هذا النص في الشريعة دليل بذاته على سموَّها وكمالها ورقيها وعدالتها؛ فقد جاءت به منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن مع ما يدعي لها من الرقي والسمو.
حق العمال في إملاء العقد مشروط
إن المقصد الأساسي في إقرار حق العمال في إملاء شروط عقود العمل كان بهدف ضمان الخروج من عقود الإذعان، وتمكين الطرف الأضعف، وخلق حالة توازن، ولكن الآية الكريمة لم تكتفي بإقرار حق العمال بوضع شروط عقود العمل “وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ” بل اتبعتها باشتراط تقوى الله “وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ”، وعدم التلاعب في الصياغة “وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا”.
والإضرابات العمالية هي إحدى وسائل الضغط التي يمارسها العمال من أجل تحصيل حقوقهم، أو إجبار أصحاب العمل على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتي من المفترض أن تفضي بالنهاية إلى إبرام عقود عمل جماعية، وهنا أننا نطالب أصحاب العمل أن يكونوا منصفين، ولا يستغلوا قوة نفوذهم في إبرام عقود إذعان؛ فإن العدل والإنصاف أيضًا تقتضيان أن يتم مطالبة الطرف الآخر بالعدل وتقوى الله وعدم استغلال الإضراب من أجل الإضرار بأصحاب العمل؛ فالمقصد كان منذ البداية خلق حالة من التوازن، وهذا يعني بالضرورة رفض أي شكل من التغول من أي طرف كان.
إنّ القرآن الكريم في نظرته الشمولية يعالج الانتهاكات التي قد تحصل بحق العمال من خلال عقود الإذعان من خلال منح العمال حق إملاء شروط العقد، كما أنه يعالج هذه الانتهاكات بإقرار الرقابة الذاتية عند إبرام العقود من خلال انتهاج سبيل العدل والإنصاف، ومنح كل ذي حق حقه بلا ضرر ولا ضرار.