حوار عمل

ينبغي مراجعة سياسات الحد الأدنى للأجور بشكل متكرر

طارق الحق، كبير مختصي سياسة التوظيف للدول العربية بمنظمة العمل الدولية

في ظل ارتفاع معدلات التضخم والضرائب على السلع والخدمات، وتأثيرها السلبي على القوة الشرائية للعاملين، وما يقابلها من تراجع اقتصادي لبعض أصحاب رؤوس الأموال؛ نتيجة انتشار جائحة كوفيد -19. كيف يمكن تحديد المستوى المناسب للحد الأدنى للأجور في الدول؟ وما التوقيت المناسب لاتخاذ خطوات في هذا الاتجاه؟

إن لجائحة كوفيد-19 تداعيات كبيرة على كل من العمال وأرباب العمل؛ فقد أثرت على التوظيف والأجور وساعات العمل من ناحية، وقدرة أصحاب العمل على دفع الرواتب والحفاظ على العاملين لديهم، والحفاظ على نشاطهم الاقتصادي من ناحية أخرى؛ وعمَّقت معدلات التضخم المرتفعة المصاحبة لهذه الآثار، لا سيما بالنسبة للعمال ذوي الأجور المنخفضة. وعلى هذا النحو، أصبحت سياسات الحد الأدنى للأجور أكثر أهمية للحفاظ على حياة كريمة للعمال وأسرهم على الرغم من العديد من الأصوات الرافضة لتعديل الحد الأدنى للأجور أثناء الجائحة، فإن ثلثي البلدان التي خططت لتعديل الأجور في الربع الثاني من عام 2020 التزمت بالموعد المحدد للتعديل.

لكن كيف نحدد المستوى المناسب للحد الأدنى للأجور؟ في أي بلد وفي أي وقت، ينبغي اتباع نهج متوازن وقائم على الأدلة وعلى بيانات إحصائية موثوقة وحوار اجتماعي فعال، مع التذكير بأن الحد الأدنى للأجور هو في الأساس أداة لمكافحة الفقر تهدف إلى ضمان حد أدنى من مستوى المعيشة لحماية رفاهية العمال؛ وهناك حاجة إلى تحديد مستويات الحد الأدنى للأجور التي ليست منخفضة جدًّا لدرجة أنها تفشل في حماية العمال مقابل أجور منخفضة لا داعي لها، أو مرتفعة للغاية؛ بحيث تؤدي إلى الالتزام السيء أو يكون لها تأثير سلبي على التوظيف.

ينبغي مراجعة سياسات الحد الأدنى للأجور بشكل متكرر على فترات منتظمة وغير منتظمة، ومع ذلك من المهم ملاحظة أن كلا من العمال وأرباب العمل سيتأثرون سلبًا بما في ذلك عدم اليقين، إذا لم يتم تحديد أساس منتظم للمراجعة؛ وفي أغلب الأحيان، تراجع البلدان سياساتها الخاصة بالحد الأدنى للأجور على أساس سنوي، على الرغم من أن العديد من البلدان قد اعتمد فترات أقصر أو أطول، وفي سياق التضخم، تزداد الحاجة إلى تعديلات الحد الأدنى للأجور، وفي الواقع كلما تم إجراء التعديل في وقت لاحق انخفضت القوة الشرائية للعمال، وأصبح من الصعب على أصحاب العمل استيعاب تكاليف القوى العاملة المتزايدة. في الواقع هذا شيء رأيناه خلال الجائحة، وقد اضطرت البلدان التي لم تقم بمراجعة الحد الأدنى للأجور وتعديله بانتظام إلى إجراء أكثر الزيادات في الحد الأدنى للأجور عام 2020؛ مما كان له تأثير أكبر على أصحاب العمل.

ما الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند وضع خطة وطنية لتعديل مستوى الحد الأدنى للأجور؟من حيث الجهات المعنية بطرح المقترحات واتخاذ القرارات، والنمو الاقتصادي للبلاد، والأحوال المعيشية والاجتماعية للعمال.

لتعديل مستوى الحد الأدنى للأجور في أي بلد معين، هناك عدد من العوامل التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار لتوجيه القرارات المستندة إلى الأدلة؛ هذه العوامل، كما تم إبرازها أيضًا في اتفاقية منظمة العمل الدولية لتحديد الحد الأدنى للأجور، 1970 (رقم 131)، هي كما يلي:

(أ) احتياجات العمال وأسرهم، مع مراعاة المستوى العام للأجور في البلاد، وتكلفة المعيشة، ومزايا الضمان الاجتماعي، ومستويات المعيشة النسبية للفئات الاجتماعية الأخرى. 

(ب) العوامل الاقتصادية، بما في ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية ومستويات الإنتاجية والرغبة في تحقيق والحفاظ على مستوى عال من العمالة.

عند تحديد الحد الأدنى للأجور أو تعديله، ينبغي للحكومات أن تبذل قصارى جهدها لضمان استشارة الشركاء الاجتماعيين ومشاركتهم (ممثلي العمال وأصحاب العمل)؛ إذ إن المنشآت والعمال هم الأكثر تأثرا بشكل مباشر بمثل هذه السياسات والأنظمة، وقد يكون لديهم وجهات نظر متباينة ينبغي أخذها بعين الاعتبار لتحسين الملكية والمشاركة وزيادة الالتزام، وينبغي إجراء حوار اجتماعي قبل أن تتخذ الحكومة أي قرار، وينبغي أيضًا إشراك الخبراء المستقلين، الذين يمثلون المصلحة العامة للبلد، فضلا عن إشراك المكاتب الإحصائية الوطنية لتقديم المزيد من الدعم لأطراف الإنتاج الثلاثة في صياغة وجهات نظرهم القائمة على الأدلة والبيانات والإحصاءات.

من خلال تجاربك الإقليمية والدولية، كيف تقييم مدى كفاية الحد الأدنى للأجور الحالي في بلد يلبي متطلبات الأسرة المعيشية؟ ما المعايير الدولية المعتمدة في ذلك؟

لتقييم هل الحد الأدنى للأجور مناسب أم لا يحتاج المرء إلى النظر في العوامل المختلفة التي تتجاوز القدرة على تلبية متطلبات الأسرة؛ وبشكل عام إن الحد الأدنى المناسب للأجور هو الذي يوفر  بلا شك  الحد الأدنى من الرفاهية للعمال وأسرهم، ويحافظ على الطلب المحلي، ولكنه يزيد أيضًا من الحوافز للعمل، والعمل بإنتاجية أكثر، ويقلل من عدم المساواة؛ ينبغي أن تكون هذه الأجور قادرة على المساهمة في رفاهية كل من العمال وأصحاب العمل، وينبغي أن ينظر إليها على أنها محرك رئيسي للنمو.

والأهم من ذلك أن التغطية القانونية للحد الأدنى للأجور أمر أساسي؛ فعلى سبيل المثال فإن استبعاد أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الحماية، بما في ذلك مجموعات معينة من العمال في أسفل توزيع الأجور، من شأنه أن يعيق فعالية الحد الأدنى للأجور وقدرتها على الحد من عدم المساواة؛ وفي مثل هذه الحالات قد يساعد الحد الأدنى للأجور في تقليل المستويات الإجمالية للفقر، لكن تأثيره سيظل مقصورًا فقط على تلك التي يغطيها تشريع الحد الأدنى للأجور.

من الناحية العملية، تعد البيانات الإحصائية أساسية لتقييم مدى كفاية الحد الأدنى للأجور، وينبغي دراسة العديد من المؤشرات، بما في ذلك النسبة المستخدمة على نطاق واسع للحد الأدنى للأجور إلى متوسط ​​الأجر أو وسطه. هذا لا يعني وجود قيمة مثالية لمثل هذه النسب، ولكن هذه النسب يمكن أن تكون مؤشرا على مستويات الحد الأدنى للأجور التي تكون إما منخفضة للغاية؛ بحيث لا تكون قادرة على حماية العمال، وتقليل عدم المساواة، أو مرتفعة للغاية؛ بحيث لا يمكن إنفاذها بشكل فعال وناجح؛ ولتفسير هذه المؤشرات بشكل صحيح يفترض أن تكون مصحوبة بتحليل وتشخيص مفصلين خاصين بكل بلد.

وفيما يتعلق بالمعايير الدولية، لدى منظمة العمل الدولية عدد من الأدوات التي تدعو إلى توفير حد أدنى مناسب للأجور، وتعزز أهميتها في النهوض بالعمل اللائق والعدالة الاجتماعية؛ وهي تشمل اتفاقية تحديد الحد الأدنى للأجور، 1971 (رقم 131) ، والتوصية المصاحبة لها، توصية تحديد الحد الأدنى للأجور، 1970 (رقم 135)، وكذلك التوصية الأحدث بشأن الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، عام 2015 (رقم 204).

في ضوء التسهيلات التي تقدمها الحكومة لدخول المستثمرين إلى البلاد، بالإضافة إلى وجود قانون لتوظيف نسب معينة من القوى العاملة الوطنية. في رأيك يمكن أن تكون الزيادة المعقولة في الحد الأدنى للأجور عقبة أمام دخول الاستثمارات إلى البلاد؟

بشكل عام، ينبغي ألا يؤدي التعديل الدقيق للحد الأدنى للأجور الذي يأخذ بعين الاعتبار احتياجات العمال من جهة والحقائق الاقتصادية من جهة أخرى أصحاب العمل والمستثمرين؛ ومن المتوقع على العكس من ذلك تحقيق فوائد إيجابية للمنشآت من خلال زيادة المجموع الكلي للطلب على خدماتهم ومنتجاتهم ، وزيادة إنتاجية القوى العاملة.

لكن بالنسبة لسلطنة عُمان، ينطبق الحد الأدنى الحالي للأجور على المواطنين فقط؛ لذا فإن أي زيادة في مستوى هذا الحد الأدنى للأجور ستساهم في اتساع الفجوة بين العمال العمانين وغير العمانيين؛ مما يؤدي إلى زيادة الإحباط بين المستثمرين غير العمانيين الذين يتوجب عليهم قانونا توظيف نسبة معينة من القوى العاملة الوطنية.

يقونا هذا الأمر إلى قضية التغطية، والحاجة إلى إبقاء الاستثناءات عند الحد الأدنى، وتجنب التمييز غير الضروري أو العنصري في الأجور الذي لا يستند إلى أسباب وجيهة، مثل: التعليم أو خبرة العمل أو المهارات. وبهذا المعنى، ينبغي تطبيق الحد الأدنى للأجور على جميع العمال، بغض النظر عن جنسيتهم ، وهذا ما نسميه الحد الأدنى للأجور غير العنصري؛ ولا يعد هذا أمرًا حاسمًا من منظور قائم على الحقوق فحسب، ولكن أيضًا لتقليل الانقسام في ظروف العمل بين المواطنين وغير المواطنين، وتقليل المنافسة غير العادلة؛ وبالتالي دعم جهود التعمين في نهاية المطاف.

ولهذا السبب لا ننصح سلطنة عُمان بمجرّد زيادة الحد الأدنى للأجور للعمانيين فوق ما ينبغي أن يعنيه الحد الأدنى للأجور بمعناه الخالص؛ الأمر الذي من شأنه أن يوسع الانقسام في سوق العمل؛ وبدلا من ذلك ينبغي لسلطنة عمان أن تسعى إلى إدخال حد أدنى مناسب للأجور ينطبق على جميع العمال، ومن شأن مثل هذا الحد الأدنى للأجور أن يساعد في تقليل الازدواجيات التي تعيق التعمين، ومن شأنه على المدى الطويل زيادة الإنتاجية وجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي، مع الاستثمار العام وبيئة الأعمال المناسبة في السلطنة يمكن أن يكون الحد الأدنى للأجور القائم على الأدلة وغير العنصري مفيدا جدا للمستثمرين والعاملين والاقتصاد ككل.

من وجهة نظرك ومن خلال استعراض أفضل الممارسات الدولية. ما أنسب نظام لتحديد مستوى الحد الأدنى للأجور؟ نظام يغطي الدولة بأكملها أم نظام يحدد معدلات مختلفة حسب القطاع الاقتصادي؟

لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع في أنظمة الحد الأدنى للأجور؛ وقد اعتمدت الدول في جميع أنحاء العالم مناهج مختلفة بناءً على حاجاتها وخياراتها.

إن نظام الحد الأدنى البسيط للأجور الذي ينطبق على جميع الموظفين سهل التشغيل والتواصل والتنفيذ، وعادة ما يكون نهجًا مناسبًا، خاصة في البلدان التي لا يتم فيها تطوير القدرات المؤسسية بشكل كامل.

من ناحية أخرى، قد تعكس الأنظمة التي تقدم معدلات مختلفة للقطاعات المختلفة بشكل أفضل أوضاع هذه القطاعات، ويمكن أن تظهر كذلك حيث تكون المفاوضة الجماعية متطورة بشكل جيد؛ ومع ذلك تتطلب هذه الأنظمة قدرة مؤسسية أكبر وأكثر تعقيدًا في التشغيل.

في حين أن كلا النهجين شرعيّ؛ فمن المستحسن إبقاء مستوى التعقيد قابلاً للإدارة واختيار نظام يخدم حاجات البلد على أفضل وجه؛ وبالنظر إلى القدرات المؤسسية وتوافر بيانات الأجور وجودتها قد تكون البساطة مفيدة.

هل تعتقد أنه من المناسب للاتفاقيات الجماعية أن يكون لها دور في تحديد مستوى الحد الأدنى للأجور فوق الحد الأدنى القانوني على مستوى المنشأة أو القطاع؟

يمكن تحديد الحد الأدنى للأجور بطرق مختلفة، منها المفاوضة الجماعية ومن خلال إعطاء القوة القانونية لأحكام الاتفاقات الجماعية؛ وفي العديد من البلدان يزدوج فيها الحد الأدنى للأجور المحدد بالمفاوضة والحد الأدنى المحدد بالقانون للأجور؛ بشرط ألا يكون الحد الأدنى للأجور المحدد بالمفاوضة أقل من المستوى القانوني.

وفي الواقع، الأساس المنطقي وراء المفاوضة في الأجور هو توفير مزيد من الحماية للعمال، لا سيما عندما يكون الحد الأدنى القانوني للأجور منخفضًا أو غير مناسب لقطاعات وصناعات معينة؛ وفي هذه الحالة تلعب المفاوضة في الأجور دورًا مهمًا للغاية، وتسمح بترجمة مكاسب الإنتاج إلى أجور أعلى؛ وعلى هذا النحو فإن الأفراد الذين يعملون في شركة أو قطاع يعمل بشكل جيد يشاركون ثمار نجاح هذه المنشأة أو هذا القطاع، ويصبحون أكثر إنتاجية؛ مما يخلق دائرة حميدة من زيادة الإنتاجية والأجور.

والأهم من ذلك يمكن للمفاوضة على الأجور أن تزيد من حجم الطبقة الوسطى، بدلا من الحصول على نسبة كبيرة من عمال يتقاضون رواتبهم عند مستوى الحد الأدنى للأجور فقط؛ ويمكن أن يكون لهذا آثار مضاعفة على القوة الشرائية للناس وعلى النمو الاقتصادي العام في البلاد.

كلمة أخيرة تود أن تقولها؟

حد الأدنى للأجور هو أداة مفيدة للغاية يمكن أن تقلل من عدم المساواة، وتساعد على ضمان أن أولئك الذين في الأسفل قادرون على حماية رفاهيتهم، وإنّ 90٪ من الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية لديها شكل من أشكال الحد الأدنى للأجور، مع استخدام مناهج مختلفة حسب الظروف والحاجات الوطنية؛ وبلا شك تعمل بعض الأنظمة بشكل أفضل من غيرها، وهذا هو السبب أنّ من الضروري تقييم التغييرات بانتظام، والنظر فيها حسب الحاجة.

وتعمل منظمة العمل الدولية بالفعل مع عدد من الدول الأعضاء لدعمها في تحسين سياساتها وأنظمتها الخاصة بالحد الأدنى للأجور، وقد دعمت مؤخرًا دولة قطر في تقديم أول حد أدنى غير عنصري للأجور في المنطقة؛ ويُقّدم دعم منظمة العمل الدولية من خلال المساعدة التقنية والمساعدة في بناء القدرات، ولكن على الصعيد الوطني ينبغي أن تكون هناك أيضًا إرادة سياسية قوية وملكية والتزام الشركاء الاجتماعيين وآليات إنفاذ فعالة.

وفي نهاية المطاف، ينبغي أن تعمل سياسات الحد الأدنى للأجور ضمن إطار عمل أكثر شمولاً، مثل سياسة القوى العاملة الوطنية، التي تهدف إلى معالجة أسواق العمل المختلفة ومشكلات العمل اللائق بطريقة متماسكة ومتكاملة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى