مقالات أخرى

الأنماط الجديدة للعمل … بين اتفاقيات العمل العربية ودور النقابات العمالية

حاتم قطيش، كاتب أردني

يتجه العالم بتسارع ملفت نحو المستقبل؛ إذ تنعكس التغيرات والتطورات الراهنة في جميع مناحي الحياة؛ فالكيّس من فطن إليها، ورفع نظره من تحت أقدامه، ووجهه إلى الأفق البعيد، وبادر بالتحرك نحوه بدلا من التقوقع في مكانه وانتظار قدوم المستقبل المجهول.

سيشهد عالم العمل بالتحديد في المستقبل تحولات كبيرة وجذرية جعلت المهتمين يطلقون عليها مصطلح (مستقبل العمل)؛ فمع وجود عوامل كثيرة تؤثر في أنماط الوظائف المستقبلية، فإننا سنجد أنفسنا بعد عدة أعوام – ليست ببعيدة – أمام أنماط عمل مستحدثة، لم تكن موجودة من قبل، وسنتحدث حينها عن بعض أنماط العمل المنقرضة التي ستكون ضربا من الماضي الذي يتداوله الناس بتندر، وأحيانا بحنين.

والاتجاه إلى مستقبل العمل واستحداث أنماط عمل جديدة مقابل اختفاء أنماط عمل أخرى لا يجب أن يبعث على الخوف والقلق من اختفاء بعض الوظائف وازدياد معدلات الباحثين عن عمل لمن أجاد التعامل مع الأمر؛ إذ أن مقابل أنماط العمل المختفية ستظهر أنماط عمل جديدة مبتكرة، يمكن أن تشكل فرص عمل جديدة ومناسبة للعمال.

وتكثيف الجهود نحو (انتقال آمن) لمستقبل العمل هو السبيل الأمثل لضمان الاستفادة من هذا الانتقال، ولا بد من تكاتف أطراف الإنتاج الثلاثة من أجل رسم خارطة طريق لهذا الانتقال الآمن؛ فالحكومات يُتطلب منها أن تتحلى بمرونة في التشريعات الناظمة لسوق العمل واتخاذ التدابير المناسبة وإدماج الأنماط الجديدة للعمل لضبط علاقات العمل وضمان عدالتها، ولا بد أيضا من تكاتف أصحاب العمل والنقابات العمالية من أجل تطوير مهارات العمال وتدريبيهم ليتمكنوا من نقل مهاراتهم وخبراتهم من أنماط العمل التقليدية الى أنماط العمل المستقبلية، والضغط نحو تطوير تشريعات ضامنة للحقوق العمالية وتوسيع مظلة الحمايات الاجتماعية وضمان عالم عمل آمن.

من الجهود الإيجابية التي ستشكل نقطة انطلاق نحو تجويد التشريعات العربية في عالم العمل وتعزيز الحماية الاجتماعية، والتقليل من معدلات البطالة المتزايدة بشكل متطرد؛ هو ما تمخض عن الدورة الـ (50) لمؤتمر العمل العربي من إقرار للاتفاقية رقم (20) من اتفاقيات العمل العربية والتوصية رقم (10) بشأن الأنماط الجديدة للعمل.

ستطبق هذه الاتفاقية على علاقات العمل التي تأخذ شكلا من أشكال العمل مقابل أجر الذي يؤديه العامل لصالح صاحب العمل وتحت إشرافه بغير أنماط العمل التقليدية السائدة في الدولة، مثل العمل عبر المنصات الرقمية، والعمل لبعض الوقت أو لوقت جزئي، ونظام أوقات العمل المرنة، والعمل عن بعد والعمل الحر.

تضع الدول نهجا لكيفية شمول الأنماط الجديدة بالتشريعات الوطنية، بالإضافة إلى تضمين التشريعات الوطنية لكل دولة تعريفا محددا لكل نمط من الأنماط الجديدة للعمل، على أن تضمن هذه التشريعات تمتع العاملين بالأنماط الجديدة بالمستوى نفسه من الحماية القانونية وظروف العمل التي يتمتع بها العاملون في أنماط العمل التقليدية السائدة دون أي تمييز.

كما يجب وجود عقد عمل محرر يتم توثيقه بين صاحب العمل والعامل مبينًا فيه مدة العمل وكيفية احتسابه وشروط التعاقد والأجر وساعات العمل وفترات الراحة اليومية والأسبوعية وأجر العمل الإضافي والإجازات المرضية والسنوية وحماية الأمومة وإنهاء علاقة العمل.

شددت الاتفاقية على وجوب أن يتمتع العاملون بالأنماط الجديدة بالحماية الاجتماعية القانونية المماثلة لتلك التي يتمتع بها العاملون في أنماط العمل التقليدية، وضمان شمول هؤلاء العمال بالتأمين الصحي والرعاية الصحية المناسبة ونظم الضمان الاجتماعي.

ويمكن للدول أن تعتمد في تغطيتها للحماية الاجتماعية على نسبة ساعات العمل، أو الاشتراكات أو الكسب، كما يمكن اعتماد التنفيذ التدريجي للحماية الاجتماعية وصولا للتغطية الشاملة.

أوجبت الاتفاقية على الدول وضع التشريعات والتدابير التي توفر بيئة عمل آمنة للعاملين في الأنماط الجديدة، كما يتوجب احترام حق العمال وتعزيزها فيما يتعلق بأنماط العمل الجديدة دون تمييز في التنظيم والمفاوضة الجماعية وتكوين منظمات يختارونها والانضمام إليها والانسحاب منها، وتمتعهم بحماية كافية من كل عمل ينطوي على تمييز في مجال العمل بسبب انتمائهم النقابي، وتشجيع استخدام التفاوض الجماعي وتطويره.

وفيما يتعلق بالأجور يجب اتخاذ قواعد تشريعية تنظم أجور العاملين في الأنماط الجديدة على أن تكون بالمستوى نفسه من أجور العاملين في الأنماط التقليدية، بالإضافة إلى تذليل سبل التأهيل والتدريب المهني، وضرورة التشجيع على تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة والاستخدام والمهنة، ويشمل حظر التمييز بين العمال من الجنسين والأشخاص ذوي الإعاقة والأشخاص ذوي المسؤوليات العائلية.

على الدول أن تضع في تشريعاتها أحكاما تقضي بشمول العاملين في الأنماط الجديدة للعمل بنظام تفتيش العمل والحماية المتعلقة بظروف السلامة وشروطها في أماكن العمل، وآليات تظلم فعالة إدارية وقضائية، وعقوبات على مخالفة أحكامها.

يجب على النقابات العمالية أن تتلقف اتفاقية العمل العربية رقم (20) والتوصية رقم (10) بشأن الأنماط الجديدة في العمل بجدية واهتمام بالغين وعقد المؤتمرات الداخلية وإطلاق الحوارات الاجتماعية من أجل نهضة جديدة في الأنظمة الداخلية وطريقة عمل هذه النقابات ومدى جاهزيتها للتعامل مع أنماط العمل الجديدة والتحقق من جاهزية العمال للانتقال الآمن نحو مستقبل العمل والانتقال إلى أنماط العمل الجديدة، والتحقق أيضا من مدى جاهزية النقابيين أنفسهم للتعامل مع الأنماط الجديدة للعمل .

وانطلاقا من كون التحدي الدائم للنقابات العمالية يتمثل بانتساب العمال لها، ومع دخول أنماط العمل الجديدة يجب أن يتم ابتكار وسائل وأدوات جديدة لتوسيع مظلة التنظيم النقابي ومضاعفة أعداد العمال المنتظمين؛ بل وتعديل الأنظمة الداخلية للنقابات من أجل استقطاب هؤلاء العمال والوصول لهم وتنظيمهم وتأهيلهم فنيا ونقابيا.

ولا بد للنقابات من إعادة النظر بشكل مرن وشفاف بأساليب إجراء الانتخابات النقابية وشروط الترشح لها والإعلان عنها وشروط إنشاء والانتساب لهذه النقابات لتتمكن من استقطاب العاملين في الأنماط الجديدة واستيعابهم، وتواكب التطور الكبير في الأتمتة في عالم العمل.

وفيما يتعلق بتجويد التشريعات الوطنية؛ اتفاقية العمل العربية رقم (20) والتوصية رقم (10) بشأن الأنماط الجديدة، تعتبر إضافة نوعية وورقة ضاغطة بيد النقابات العمالية من أجل السعي والضغط والعمل مع الشركاء الاجتماعيين وشركاء الإنتاج من خلال حوار اجتماعي حقيقي وفعال لتجويد التشريعات الناظمة لسوق العمل والحماية الاجتماعية ليشمل العاملين في الأنماط الجديدة.

كما يجب على النقابات توسيع دائرة المفاوضة الجماعية وأساليبها وأدواتها والمنخرطين بها لضمان شمول العاملين في الأنماط الجديدة، كما يمكن لها العمل لاستقطاب وإدماج العاملين في الاقتصاد غير المنظم وشمولهم في الحماية الاجتماعية والتكوينات النقابية.

ويقع على عاتق النقابات العمالية العبء الأكبر في الانتقال الآمن لمستقبل العمل لضمان محافظة العمال على وظائفهم وانتقالهم من الأنماط التقليدية إلى الأنماط الجديدة للعمل وشمولهم بتشريعات سوق العمل والحمايات الاجتماعية وحق التنظيم النقابي، وكل ذلك يعتمد على جدية القادة النقابيين وصدقهم ومدى انتمائهم للطبقة العمالية وتفاعلهم مع قضاياهم، وخاصة المستقبلية منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى