استدامة الوظائف في القطاع الخاص
الدكتور محمد أحمد مصطفى، استشاري سياسات العمل والتنمية المستدامة، مصر
أحدثت الثورة الصناعية الرابعة منذ الإعلان عنها في المنتدى الاقتصادي العالمي عام ٢٠١٦ تغيـرات اقتصادية واجتماعية حادة، مدفوعة بشكل أساسي بأربعة اتجاهات كبرى، وهي العولمة والابتكارات التكنولوجية والتحولات الديموغرافية وتغير المناخ، وأشارت العديد من الدراسات إلى أن وظائف المستقبل سوف تخلق الملايين من فرص العمل في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية، والوظائف الإبداعية والمعرفية ذات الدخل المرتفع، بالإضافة لبعض الوظائف اليدوية المنخفضة المهارة ذات الدخل المنخفض، في مقابل انكماش الطلب على الوظائف الروتينية التقليدية السائدة ذات الدخل المتوسط، ومن ثم سيكون التنافس بين أولئك الذين يمتلكون المهارات الأكثر تميزًا وندرة في مجال تطبيق التكنولوجيا الحديثة.
ولما كانت أهداف التنمية المستدامة في الأساس هي خارطة طريق تسعى إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية مع الاستغلال الأمثل والعقلاني للموارد الطبيعية لضمان متطلبات الأجيال الحالية والقادمة، نجد أن التحديات والمتغيرات السريعة والحادة التي يواجهها سوق العمل تؤثر بشكل أساسي في تحقيق العدالة الاجتماعية وفرص النمو الاقتصادي، وهو ما يتطلب درجة عالية من المرونة للتكيف مع تلك التحديات التي أحدثت تغيرات هيكلية في أنماط العمل التقليدية وآليات العرض والطلب في سوق العمل.
ومما لا شك فيه أن مستقبل العمل يحمل مجموعة من التحديات التي لها انعكاسات عديدة ومتفاوتة التأثير، من أهمها زيادة أعداد الباحثين عن العمل، بسبب تأثر الطلب على الوظائف التقليدية مع زيادة العرض للوظائف الجديدة؛ نتيجة عدم جاهزية نظم التعليم في الكثير من الدول، في الوقت الذي تحتاج الوظائف الجديدة لمهارات غير تقليدية وهو ما يظهر اتساع الفجوة بين العرض والطلب نتيجة لفجوة المهارات المطلوبة.
ولما كانت سرعة التطور تفوق جاهزية سوق العمل من حيث مستوى الوعي والمهارة لملائمة الوظائف الجديدة، أيضًا استجابة تشريعات سوق العمل وسياساته لم تكن بالقدر المطلوب من أجل تنظيم الواقع الجديد لمستقبل العمل؛ الأمر الذي يضعنا أمام واقع يتطلب سياسات مرنة قادرة على ملاءمة الواقع ومتغيراته، مع ضرورة الاهتمام بتطوير منظومة التعليم القائم على الجدارات المهنية، بالإضافة لتطوير منظومة التدريب المستمر لإكساب العاملين مهارات غير تقليدية في مجالات التقنية، وحل المشكلات، والتفكير النقدي، بالإضافة إلى المهارات الشخصية، مثل التواصل والتعاون والقدرة علي الإقناع، وهو ما يتطلب زيادة الاستثمار في التعليم والتدريب وبناء قدرات رأس المال البشري.
ومن هذا المنطلق يأتي سوق العمل والتشغيل ضمن أولويات رؤية عُمان ٢٠٤٠، والتي تضمنت توجه إستراتيجيا رئيسا يعزز من قدرة سوق العمل على جذب الكفاءات ومواكبة التغيرات الديموغرافية والاقتصادية والمعرفية والتقنية من أجل بناء اقتصاد متنوع وحيوي، متفاعل مع معطيات العولمة، وقادر على المنافسة وتلبية احتياجات المواطنين في الحاضر والمستقبل.
لذلك تسعى سلطنة عُمان إلى تحقيق هذا التوجه الإستراتيجي من خلال تعزيز تشريعات سوق العمل وسياسات العمل المرنة، ودعم دور القطاع الخاص من أجل توفير مزيدا من فرص العمل؛ وذلك بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأسها النقابات العمالية للمساهمة بصفتها شريكا اجتماعيا في تحسين أداء سوق العمل العماني لمواكبة التطورات العالمية في مجال وظائف المستقبل.
وبالنظر لتقرير الرؤية العربية للاقتصاد الرقمي لعام 2022 نجد أنه قد أكد على ضرورة تبني إستراتيجية عربية للتحول للاقتصاد الرقمي، تراعي المستجدات والأوضاع التي أحدثتها الثورة الرقمية، وهو ما يستدعي توجيه الاستثمارات والجهود نحو القطاعات ذات الأولوية من أجل تحقيق نهضة تنموية شاملة، مثل التعليم والتدريب والحكومة الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والاتصالات، وغيرها،كما يعكس التقرير نفسه مدى نضج الممارسات وعمقها في قطاعات الابتكار ورأس المال البشري والقدرة التنافسية والحكومة الرشيدة وفاعلية المؤسسات الحكومية وعملية صنع القرار بعَدّها متطلبات رئيسة للتحول للاقتصاد الرقمي وما يتضمنه من تكنولوجيات، بهدف تعزيز تحقيق التنمية المستدامة.
لذا؛ نلاحظ أن دول الخليج قد طبقت في السنوات الماضية برامج لتوطين القوى العاملة، كما طبقت أيضًا سياسات تعزز من مرونة سوق العمل؛ مما ساهم في جذب الاستثمارات وتشجيع القطاع الخاص للنمو وخلق مزيدا من فرص العمل، وانعكس أيضًا في انخفاض معدلات الباحثين عن عمل، والتي وصلت نسبتها في سلطنة عُمان إلى ٢.٣٣٪ متقدمة على كل من السعودية والإمارات.
من هنا يتضح لنا أن تطوير سياسات مرنة تمكّن سوق العمل من خلق مزيد من الوظائف وتنمية مهارات العاملين للاستجابة لاحتياجات سوق العمل وإكسابهم ميزة تنافسية للحفاظ على وظائفهم بناء على عوامل الكفاءة الوظيفية، أمر ليس بمعزل عن مسؤولية مؤسسات القطاع الخاص في تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي تضمن استدامة الوظائف، من خلال المساهمة في تطوير رأس المال البشري، ووضع نظام للتقييم المستمر لقياس العائد على نمو الأعمال وزيادة القدرة التنافسية؛ لذلك فإن الاهتمام بمنظومة التعليم والتدريب وتنمية المهارات وربطهما باحتياجات سوق العمل مسؤولية مشتركة لتحقيق التوافق بين مهارات العمال والمهارات المطلوبة في سوق العمل.
إن تعزيز عملية استدامة الوظائف في مؤسسات القطاع الخاص بسلطنة عمان في ضوء كل هذه التحديات، يمكن من خلال عدة سبل، منها تطبيق سياسات عمل فاعلة ومرنة تضمن توفير مجموعة من الحوافز للحفاظ على القوى العاملة، وخلق فرص العمل لتعزيز استدامة الوظائف، والاستثمار في تطوير رأس المال البشري وتحسين فعالية سوق العمل من أجل الحد من المخاطر المصاحبة لتحديات مستقبل العمل.
عليه نحاول من خلال هذه الأسطر وضع خارطة طريق تمثل رؤية المنظمات النقابية للمساهمة في رؤية التطوير الطموحة التي تتبناها سلطنة عُمان لتطوير سوق العمل من خلال إجراء إصلاحات تشريعية ومؤسسية شاملة، والاستثمار في رأس المال البشري للحد من الأعداد الكبيرة للباحثين عن العمل وتطوير المهارات؛ مما يعزز من مرونة سوق العمل من أجل ضمان استدامة الوظائف في القطاع الخاص بسلطنة عُمان:
أولويات الإصلاح وسبلها:
الإطار التشريعي والمؤسسي:
- مراجعة التشريعات الاجتماعية المنظمة لعلاقات العمل ووضع سياسات تضمن عدم التمييز وتمتع العاملين بالقطاع الخاص بالحقوق والمزايا والحوافز الممنوحة للعاملين بالقطاع العام.
- وضع رؤية لتطوير التشريعات الاجتماعية المنظمة لسوق العمل، تشمل قواعد تنظيم أنماط العمل المرن وغير التقليدي لوضع منظومة حماية تضمن حقوق هذه الفئة من العمال وضمان دمجهم داخل التنظيم النقابي والتمتع بخدماته.
- المساهمة في تنظيم أنماط العمل المرن في تشريعات العمل الوطنية ووضع آليات مرنة للرقابة والتفتيش علي تطبيق تلك التشريعات في ظل المتغيرات السريعة لعلاقات العمل.
- تقديم مقترح لتفعيل دور اللجنة الثلاثية للحوار الاجتماعي لتفعيل دور الشركاء الاجتماعيين الممثلين للحكومة ومنظمات أصحاب الأعمال والاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، من أجل ضمان استدامة أعمال تلك اللجنة وشفافيتها.
- تقديم رؤية لتضمين قضايا مستقبل الوظائف وتطوير المهارات لأجندة اللجنة الثلاثية للحوار الاجتماعي من أجل وضع آلية أساسية لإعداد جميع السياسات المتعلقة بعلاقات العمل وعلاج مشكلة زيادة أعداد الباحثين عن عمل وتعزيز مظلة الحماية الاجتماعية وغيرها من القضايا التي تؤثر بدرجة مباشرة في استقرار القوى العاملة.
منظومة التعليم والتدريب
- ضرورة مشاركة ممثلين عن المنظمات العمالية في لجان بمشاركة القطاع الخاص والحكومة لتطوير إطار الجدارات المطلوبة للوظائف، والمساهمة في تطوير مهارات القوى العاملة للمساهمة بمفاعلية في سوق العمل.
- تطوير قواعد بيانات عضوية المنظمات النقابية لتتبع المسار المهني وعلاقته بتطور المهارات، من أجل التعاون مع القطاع الخاص في تطوير القوى العاملة، والمساهمة في إعداد خطط وبرامج للتعليم والتدريب وفقًا لمعلومات سوق العمل المتاحة لدى المنظمات النقابية.
- التركيز على قضايا تطوير التعليم والتدريب وبرامجه وتطوير القضايا المتعلقة بالعمل وإضافتها للقضايا المندرجة ضمن الحوار الاجتماعي.
- إدراج أولوية زيادة مخصصات الإنفاق على الاستثمار في رأس المال البشري ضمن أجندة التفاوض والحوار مع الحكومة من خلال تخصيص صندوق مشترك يموّل أنشطة التدريب المتصل بالعمل.
- المساهمة في تصميم المناهج والبرامج لتتوافق مع احتياجات سوق العمل المتزايدة، وضمان تحقيق معيار المنافسة في رأس المال البشري بصفته عنصرا رئيسيا للحفاظ على العمال.
- إطلاق مبادرة لتوعية العمال بقضايا التحولات الكبرى، كالتطورات التكنولوجية وتأثيرات التغيرات المناخية، وتطوير ثقافة الاستقرار الوظيفي المرتبطة بعلاقة العمل الدائمة إلى ثقافة التطوير وقيمة المهارات الذاتية بصفتها ميزة تنافسية في سوق العمل.
مظلة الحماية الاجتماعية
- تطوير رؤية نقابية لمد مظلة الحماية الاجتماعية، تشمل جميع شرائح المجتمع لتفادي تأثير التطور التكنولوجي ونمو أنماط الوظائف الجديدة للحد من تأثيرات زيادة أعداد الباحثين عن العمل.
- تطوير رؤية نقابية تهدف إلى تحليل تأثيرات مرونة سوق العمل وسياسات العمل النشطة على معدلات الطلب على برامج الحماية الاجتماعية.
- الاطلاع على التجارب الدولية والإقليمية الناجحة في دور النقابات العمالية في تطوير رأس المال البشري وعلاقته بزيادة الطلب على برامج الحماية الاجتماعية.
- تسليط الضوء على إيجاد التوازن بين مستهدفات رؤية عُمان ٢٠٤٠ الاقتصادية والاجتماعية بما يضمن تحقيق المصلحة المشتركة لجميع الأطراف.