معا لوظائف مستدامة
الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
يمثل العامل الاقتصادي التحدي الأكبر في منظومة التوظيف والتشغيل للقوى العاملة الوطنية؛ لكونه المحرك الأساسي لإنتاج فرص العمل الدائمة واستقرار سوق العمل، الذي يستوعب أعدادًا كبيرة من المسرحين والباحثين عن عمل العمانيين، الذين باتت أعدادهم تتزايد بشكل كبير حسب الإحصاءات الوطنية الأخيرة؛ إذ يشير التقرير السنوي للاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان لعام 2023 إلى أن عدد العمال العمانيين المنهاة خدماتهم والمرحسين بشكل جماعي بلغ (3997) من (51) منشأة، كما تشير التقارير الإحصائية لوزارة العمل إلى تجاوز أعداد الباحثين عن عمل (110) آلاف؛ الأمر الذي يضع الحكومة ومنشآت القطاع الخاص أمام مسؤولية إعادة هيكلة سوق العمل وتطوير الاقتصاد المحلي وتبني سياسات اقتصادية أكثر استدامة، تضع تحسين مستويات الإنتاج في مقدمة أولوياتها، وتجعل مبادرات سوق العمل وسيلة قوة تسد الفجوة الحاصلة بين العرض والطلب، وتضمن تنوع الفرص الوظيفية واستدامتها؛ ومن ثم تعزيز منظومة التوظيف المستدام من خلال ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى، وتمثلها الحكومة ومنشآت القطاع الخاص، وتعنى بتوجيه جهود العمل الوطنية في المرحلة الحالية والمقبلة إلى رفع كفاءة سوق العمل عبر توطين الصناعات، وتعزيز دور الصناعات التحويلية التي تساهم في تنشيط حركة الاقتصاد بما توفره من أنشطة وبدائل وخيارات اقتصادية أوسع، في ظل نواتج تطبيق الإستراتيجية الصناعية لعام 2040؛ بحيث يعمل الشباب العماني على إدارتها وتشغيلها وتنظيم سلاسل الإنتاج فيها، بشكل يستوعب أعدادًا كبيرة من الباحثين عن عمل، وتوظيف الخبرات وأصحاب التجارب من المسرّحين من العمل؛ فقدرة هذه المشاريع على صناعة التحول نابعة من ما توفره من فرص وظيفية أوسع وخيارات وبدائل أكثر نضجا، وعلى الجهات المعنية أن تتجه للبحث عن قطاعات إنتاج أكثر استدامة وابتكارية في استيعاب القوى العاملة الوطنية، وتستفيد من جهود الاستثمار الأجنبي في صناعة التحول القادم الذي يعيد تقييم المسار ونتائجه على سلطنة عُمان، والفرص التي حققها الاستثمار الأجنبي وانتشار المدن الاقتصادية الوافدة على أرضها؛ عليه ينبغي البحث في إعادة تقييم مسار الاستثمار الأجنبي ومدى قدرته على صناعة الوظائف في ظل اهتمامه بالاستثمار العقاري ومدن المستقبل وشبكات الطرق، وهي مشروعات لا تستوعب أعدادا كبيرة من القوى العاملة العمانية.
أما الركيزة الثانية، وتمثلها التغيرات الاقتصادية المختلفة، مثل أنماط العمل الجديدة، مثل العمل المرن، والعمل عن بعد، والعمل المؤقت، والعمل لبعض الوقت، وتعنى بزيادة مدى الاستفادة من مبادرات التوظيف التي أطلقتها وزارة العمل لاحتواء الباحثين عن عمل وإيجاد فرص وظيفية لهم تتناسب مع مؤهلاتهم وتخصصاتهم، مثل مبادرات (دعم الأجور) و(المليون ساعة) و(ساهم)، والتي تستهدف استيعاب أكبر عدد ممكن من المسرحين والباحثين عن عمل لفترات مؤقتة؛ إذ أوجدت أشكالا جديدة لعقود العمل لا توفر بطبيعتها الحماية الاجتماعية والأمان الوظيفي الذي يطمح إليه العامل، ما يؤكد على أهمية تبني سياسات اقتصادية مستدامة، وبرامج عمل تهدف لرفع درجة وعي العمال بالأطر التنظيمية والقانونية، والواجب اتباعها قبل إنهاء عقود عمل القوى العاملة العمانية بمنشآت القطاع الخاص، بالإضافة إلى أهمية تحفيز الأنظمة والمشاريع الاقتصادية لتساهم في خلق وظائف جديدة، تقدم مستوى عاليا من الأمان الوظيفي، واتخاذ إجراءات عملية جادة بشأن تعزيز ثقافة العمل الحر، وتبسيط الإجراءات، وسرعة إصدار التراخيص، والتوسع في الخيارات والبدائل المبتكرة التي تتناغم مع اهتمامات الشباب وتلبي احتياجات سوق العمل في الوقت الراهن وفي المستقبل.
إن مسار استدامة الوظائف يؤسس لمرحلة متقدمة في الاهتمام بتعظيم القيمة المضافة للابتكار والتنظيم والإدارة في العمل الحر وريادة الأعمال والشركات الطلابية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ وهذا الأمر يتطلب تحقيق تكامل وتناغم مع كل المنظومات الاقتصادية والتسويقية والأدائية والتشغيلية، وتوظيف التقنيات الحديثة في الحد من البيروقراطية وسلسلة الإجراءات الروتينية التي باتت تتصدر المشهد وتضع القيود والعراقيل أمام انخراط الشباب ورواد الأعمال في قطاع ريادة الأعمال والعمل الحر والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وبما يضمن فتح مشاريع جديدة وأنشطة اقتصادية أكثر تجددا، واحتواء الكفاءات واستيعاب متطلبات سوق العمل، ويضمن الاعتماد بشكل أساسي على القوى العاملة العمانية، وتطبيق إجراءات التعمين والإحلال وبشكل خاص في الوظائف الهندسية والأساسية والعليا والفنية، والحد من التجارة المستترة؛ الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تفعيل قوانين الاستثمار والشراكة ومراجعة قانون الإفلاس للشركات بالشكل الذي يعطي إجابة مقنعة لمبرر منشآت القطاع الخاص بالتسريح، وعبر إيجاد مراجعات وتقييمات لحالات الإفلاس؛ حتى لا يصبح الإفلاس ذريعة تتخذها منشآت القطاع الخاص في الحصول على المزايا، أو وضع الشباب العماني في أمر الواقع بقبول التسريح أو إعادته إلى العمل بعقود جديدة وأجور أقل، ويبقى منح القطاع الخاص الفرص والتمكين والتحفيز المشروط بالتوسع في الإنتاج والوظائف والبدائل وفتح آفاق أوسع لاستيعاب القوى العاملة العمانية والتحفيز مع تحمل مسؤوليته في الوفاء بالتزاماته الأخلاقية والاجتماعية لنمو هذا القطاع والتوسع في سوق العمل والاستفادة من عقود الاستثمار في توسيع قاعدة الإنتاج والصناعة التحويلية، مع أهمية توفير الأدوات الضبطية والرقابية وأدوات المتابعة لمنشآت القطاع الخاص.
هذا الأمر يفرض على منظومة التوظيف والتشغيل الوطنية في ظل مسار التكاملية بين أطراف الإنتاج الثلاثة، ودور فاعل للمؤسسات المعنية بشأن الاقتصادي في رسم خارطة الوظائف في سوق العمل المحلي، كما يؤكد في الوقت نفسه على دور التعليم المحوري في رسم هذا المسار من خلال تصحيح المفاهيم المغلوطة حول العمل المهني والتقني، والتخصصات الأدبية والعلوم الاجتماعية، وتنويع المسارات التعليمية منذ مراحل مبكرة في التعليم الأساسي؛ بحيث ينمو الاهتمام بالتعليم المهني والتقني والفني مع الطالب منذ وقت مبكر يستطيع من خلاله أن يصنع له حضورا في تفكيره وقناعاته فيجد فيه استقراره وأمانه الوظيفي؛ فيبدع وينافس فيه ويكرس جهده من أجل تقديم منجز منافس، فضلا عن دور مؤسسات التعليم العالي في إعادة هيكلة التخصصات الأكاديمية بما يتناسب مع طبيعة الوظائف، وإعادة تقييم التخصصات المشبعة وتوجيهها إلى فتح تخصصات جديدة ترفد سوق العمل، بالإضافة إلى دور المؤسسات البحثية ومراكز البحث العلمي في تقييم المهارات التي يحتاجها سوق، وقياس اتجاه الأنشطة الاقتصادية ونوع الوظائف فيها؛ بحيث يصل الفرد إلى سوق العمل وقد امتلك المهارات الناعمة والتقنية التي تعينه على التكييف مع بيئة العمل.