تسريح القوى العاملة العمانية في القطاع الخاص: ترهل سوق العمل وتدني محفزات الحماية والاحتواء أم غياب السياسات الضبطية والرقابية على المنشآت؟
الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
يطرح ملف تسريح القوى العاملة العمانية من القطاع الخاص على منظومة العمل الوطنية والمشهد الاقتصادي والاجتماعي التنموي اليوم تحديات كبيرة، ويستدعي معالجات نوعية مبتكرة تتجاوز الأفكار السطحية والحلول المقتضبة إلى تبني سياسات تنموية أكثر ابتكارية واستدامة ومهنية؛ فإن أزمة التسريح وتداعياتها باتت تلقي بظلالها على كل تفاصيل حياة المواطن، مزعزعة ثقته بنفسه وقدراته، وثقته بمؤسسات الدولة ومنظومات التعليم، فضلا عن قناعاته وثوابته وهويته الوطنية، كما نجد ارتفاع الظواهر السلبية ومؤشر الجرائم الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية وتصدع العلاقات الأسرية في ظل ما تفصح عنه قضايا الطلاق والخلع والنفقة المرفوعة في المحاكم المختلفة، والملاحقات القانونية من البنوك التي طالت الكثير من المسرحين عن أعمالهم.
كل ذلك وغيره بات يفرض اليوم واقعا جديدا على المنظومات الوطنية، ويؤكد الحاجة إلى مزيد من المهنية والتأطير، وسرعة العمل على تطبيق منفعة الأمان الوظيفي وفقا لأحكام قانون الحماية الاجتماعية للمسرحين والباحثين عن عمل لأول مرة من العمانيين على حد سواء، مراعية في ذلك طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وضعف الحركة الشرائية وتراجع حركة السوق، وأعداد الفئات المعسرة والمستحقة الداخلة في منظومة الحماية الاجتماعية أو المنتظرين في قائمة المستحقين للصدقات والزكوات والتبرعات وغيرها من المساعدات الخيرية.
ونظرا لطبيعة العلاقة المتجذرة بين ملف التسريح والباحثين عن عمل والتحديات المرتبطة بالمشهدين الاقتصادي والاجتماعي؛ فإن أي معالجة لملف المسرحين والباحثين عن عمل لأول مرة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات والظواهر الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع العماني؛ لكونها نتاج لهذه التراكمات، ولا يمكن ضبطها إلا بإغلاق باب التسريح وضبط كل الأسباب المؤدية إليه، وتبني سياسات وطنية تعظم من بناء المورد البشري، وتفتح المجال له في الاستفادة من كل الفرص، وكسب ثقته في الاعتماد على العمل الحر، وتوظيف الممكنات الوطنية، كالتسهيلات والحوافز والتشريعات في الحد من مشكلة تسريح القوى العاملة العمانية، من خلال الوقوف على الثغرات الحاصلة، وعلاقة ذلك بالتوجهات والمبادرات المتخذة في هذا الشأن، والتي ساهمت في تفاقم المشكلة، إما للتراكمات التي ترتّبت عليها، أو أنها لكونها جاءت حالا لمشكلة وقتية في زمن معين، وما باتت تتسبب فيه من ضمور في مستوى معالجة التحديات المرتبطة بالمسرحين، وتفاقم ملف التسريح، وسوء الفهم الحاصل لدى مؤسسات القطاع الخاص في طريقة تعاطيها مع تلك المبادرات التي طرحتها وزارة العمل؛ وبالتالي نتساءل هل تفاقم مشكلة التسريح هي نتاج للترهل الحاصل في سوق العمل العماني، وحالة الإغراق التي يعيشها في ظل وجود التجارة المستترة والقوى العاملة المخالفة، وغياب مسار المحفزات المنتجة واستدامتها وإنتاجيتها، أم هي نتاج لما تم اتخاذه من قرارات سريعة وتوجهات غير مدروسة أو قيد الدراسة والتجربة والتأطير والبحث.
لقد أشار التقرير السنوي للاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان لعام 2023 إلى أن عدد العمال العمانيين الذين تم إخطارهم بإنهاء خدماتهمّ أو تسريحهم جماعيا في عام 2023 وحده بلغ 3997 عاملا من 51 منشأة، وعلى الرغم من التراجع في أعداد المسرحين عن الأعوام السابقة؛ إذ بلغ عدد العمال العمانيين الذين تم إخطارهم بإنهاء خدماتهم أو تسريحهم جماعيا في عام 2021 وحده بلغ 5438 من 165 منشأة، في حين كان عدد العمال العمانيين الذين تم إخطارهم بإنهاء خدماتهم أو تسريحهم جماعيا في عام 2020 بلغ 6345 من 120 منشأة ، إلا إن استمرار عملية التسريح رغم تحسن الظروف الاقتصادية واستمرار الحوافز المقدمة للقطاع الخاص -في ظل تعافي أسواق النفط العالمية- يطرح الكثير من علامات الاستفهام؛ فمن جهة يمثل الرقم الصعب الذي بات تشكله الأعداد السنوية للمسرحين تحديا كبيرا على الحكومة والمنظومة الاقتصادية ومنظومة الحماية الاجتماعية والمنظومات الأمنية الأخرى- خاصة في ظل ما ارتبط بهذا التسريح من قناعات لدى المنشآت بأن تسريح القوى العاملة العمانية هو البديل الأنجع في تجاوز محنتها الاقتصادية، دون جهد منها في الوقوف على واقع التحدي وعين المشكلة، وتعديل أوضاعها، وتصحيح ممارساتها وضبط إجراءات عملها، أو تطوير آلياتها وأدواتها، أو إعادة هيكلة مواردها، وتجديد الكفاءة الإدارية فيها، والوقوف على أسباب الفشل أو الإخفاق، والعوامل التي أدت بها إلى الإفلاس أو الإغلاق، بل لم تحاول أن تعيد هيكلة خطوط إنتاجها، والتسويق لبرامجها، وإدخال التقنيات الحديثة المعززة لفرص جودة الإنتاج والمنافسة.
وتشير التقارير الصادرة عن الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان إلى أن جهوده مع الجهات المعنية الأخرى في هذا الصدد تكللت بالحفاظ على أكثر من 45708 من القوى العاملة العمانية في منشآت القطاع الخاص من إنهاء الخدمات الجماعية أو تخفيض الأجور، وهو مؤشر خطير ينبغي إدراك مغازيه ومنطلقاته وتداعياته المستقبلية، وكأنه يراد منه تصفية القطاع الخاص من القوى العاملة العمانية، ودعوة إلى إعادة هيكلة ملامح هذا القطاع بتثبيت القوى العاملة غير العمانية فيه كاستحقاق ثابت لخلق حالة من عدم الثقة بين المواطن والقطاع الخاص، والمواطن وجهود الحكومة من جهة أخرى؛ وبالتالي ما قد يفهم منه بأن مسألة التسريح لم تعد ترتبط بالظروف الاقتصادية، بقدر ما هي ممارسات يفرضها الاقتصاديون وأصحاب الأموال لخلق مزيد من الفجوة بين المواطن والثقة في أداء مؤسسات الدولة، ومحاولة فرض واقع جديد يؤسس في المواطن قناعة أكيدة بعدم جدية القطاع الخاص في استقطاب الكفاءة العمانية؛ وهو الأمر الذي يحاول القائمون فيه على هذا القطاع إثبات نظريتهم بعدم قدرة الشباب العماني على تحمل مسؤولياته، ووضعه الحلقة الأضعف في الجاهزية الأدائية، ومن جهة أخرى فإن تنفيذ إجراءات التسريح تتم وفق تجاوزات معروفة، وممارسات تحمل في طياتها سلوك الاستفزاز للمواطن، والضغط عليه بأساليب تعسفية؛ وهو ما يمكن قراءته في ملخص تقرير الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان بشأن البلاغات والمخالفات العمالية التي رصدها الاتحاد خلال الأعوام 2020 – 2023 ضمن جهوده مع الجهات المعنية الأخرى في المتابعة والنظر في قرارات القوى العاملة العمانية المنهاة خدماتها؛ إذ إن أبرز المطالب والشكاوى والمخالفات العمالية الواردة إلى الاتحاد العام تتمثل في إنهاء عقود العمل بالإرادة المنفردة من قبل صاحب العمل بدون مسوغات قانونية، وإنهاء عقود العمل بسبب انتهاء المشاريع المسندة للمنشآت، أو بسبب إفلاس المنشآت وتصفيتها، وتخفيض أجور العمال من خلال إجبارهم على توقيع عقود عمل جديدة بمزايا مخفضة، وعدم صرف الأجور أو التأخر في صرفها، بالمخالفة لقانون العمل، وعدم الالتزام بأحكام اللائحة التنظيمية لتدابير السلامة والصحة المهنية؛ ونقل القوى العاملة العمانية إلى مواقع عمل مختلفة بخلاف الموقع المتفق عليه والمحدد بعقد العمل؛ وإجبار العمال العمانيين على تغيير عقود عملهم من عقود عمل غير محددة المدة إلى عقود عمل محددة المدة، وعدم التزام المنشآت بتقديم المستندات اللازمة للعاملين للاستفادة من التسهيلات التي تقدمها المؤسسات المصرفية وشركات التمويل، والإنهاء الجماعي والفردي لخدمات القوى العاملة العمانية، وإجبار العمال على الخروج في إجازات سنوية بدون أجر، كما أبرزت محاضر التسوية واتفاقيات العمل الجماعية التي نفذها الاتحاد العام مع الجهات المعنية الأخرى جملة من الالتزامات والتعهدات، منها عدم إنهاء عقود عمل القوى العاملة العمانية، واستمرارها في العمل وفقًا لأحكام عقد العمل، وإلغاء قرارات خفض الأجور، وتوجيه إدارات المنشآت بصرف الأجور كاملة، وفي مواعيدها المحددة دون تأخير، وتشغيل القوى العاملة العمانية على أوسع نطاق، وتوجيه إدارات المنشآت بتدريب القوى العاملة العمانية وتأهيلها، ورفع مستواها المهني، وإحلالها محل القوى العاملة غير العمانية، وإحالة القوى العاملة العمانية المنهاة خدماتها -من المنشآت المحالة إلى التصفية أو المغلقة نهائيًّا- إلى صندوق الأمان الوظيفي بالتنسيق مع الجهات المختصة؛ للاستفادة من المنفعة المالية إلى أن تتوفر لها فرص العمل المناسبة، وإلزام منشآت القطاع الخاص بالتقيّد بأحكام اللائحة التنظيمية لتدابير السلامة والصحة المهنية في المنشآت الخاضعة لقانون العمل، وتحسين شروط العمل وظروفه، ومع ذلك فإن مستوى التزام المنشآت سيظل معقودا بمستوى المصداقية وكفاءة أدوات الرقابة والمتابعة والضبطية القانونية الملزمة بتحمل المنشآت لأي تبعات في عدم التزامها بتنفيذ هذه الالتزامات.
وعلى الرغم من أن مشكلة تسريح القوى العاملة العمانية في القطاع الخاص تعود إلى جملة من الأسباب، أشرنا إلى بعضها، فللاقتصاد والنمو الاقتصادي – بطبيعة الحال- دور محوري ومحرك أساسي لخلق فرص العمل الدائمة واستقرار سوق العمل والتشغيل، وقد فرضت التغيرات الهيكلية المتعلقة بأنماط العمل الجديدة، مثل أنظمة العمل المرن والعمل عن بعد، والعمل المؤقت، والعمل لبعض الوقت، إضافة إلى مبادرات التوظيف التي أطلقتها وزارة العمل لاحتواء الباحثين عن عمل، وإيجاد فرص وظيفية لهم تتناسب مع مؤهلاتهم وتخصصاتهم، مثل مبادرات (دعم الأجور) و (المليون ساعة) و(ساهم) وغيرها، فرضت تحولات جديدة في مسار ملف التسريح، وأثار ملف العقود المؤقتة ومحدودة المدة تساؤلات كثيرة ونقاشات مستفيضة -في ظل عدم وضوح مسار هذه العقود- ولأنها قائمة على شرط المدة، سواء أكانت مدة انتهاء المشروع أم انتهاء الغاية من وجود هذه العقود أم غيرها، فإنها مربوطة بشرط الوقتية الذي بات يشكل هاجسا لدى أو العامل، وما يعنيه ذلك من تأثيره المباشر على مسار الإنتاجية والأبعاد النفسية والقناعات السلبية التي تضع الوقت باعتباره المحك الذي يقرر مصير هذا الموظف أو العامل في أداء مهمته من عدمه؛ لذلك بات ملف العقود المؤقتة يضيف إلى ملف التوظيف والتسريح اليوم عبئا آخر وتحديا أكبر وهاجسا يدق ناقوس الخطر؛ إذ العقود المؤقتة ومحدودة المدة تحت أي تسمية لها – إن لم يصدر بشأنها إطار واضح بالتثبيت وفق معايير واضحة ومعلومة- تتساوى في حجم تأثيرها وتداعياتها مع التسريح القسري والفصل التعسفي لكونهما وجهين لعملة واحدة، وهي أن يتراجع المواطن من كونه موظفا أو عاملا إلى كونه باحثا عن عمل، يعيش دوامة هذه التراكمات، ضحية هذه القرارات غير المدروسة والوقتية، والتي لا يمكن البناء عليها واعتمادها مسارا وطنيا، يقوم على تعظيم الكفاءة العمانية، وتعزيز موقعها في منظومة العمل والتشغيل، والحفاظ على درجة استحقاقاتها في جانب الواجبات والحقوق والإنتاجية، وإدارة المشاعر وتعزيز المواطنة، وترسيخ الولاء الوظيفي وتحقيق الأمان الوظيفي؛ إذ لا أمان وظيفي لشخص مهدد بالتسريح؛ فعلى الرغم مما قد يثبته الفرد من كفاءة وقدرة وإنتاجية وانضباط وولاء وانتماء وشعور بالمسؤولية أو يقدمه من مبادرات ويصنعه من فرص ويبنيه من محطات التحول التي ستصنع في حياته الفارق؛ إلا إنه سيظل مهددا بالفصل التعسفي والتسريح القسري الذي يمثّل انتحارا للكفاءة العمانية، كما أن نتائجه الكارثية النفسية والاجتماعية والمعيشية والأسرية والاقتصادية أقرب إلى وصف التسريح القسري بأنه جريمة، وكما قيل في المثل “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”.