اتفاقية القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل … هل نحن بحاجة إليها؟
حاتم قطيش، كاتب أردني
على مدار سنوات طويلة كان يتم التعامل مع مصطلح التحرش بنوع من التحفظ؛ مما أدى الى عدم وضوح المقصود بهذا المصطلح، وعدم مقدرة العديد من تمييز بعض التصرفات على أنها نوع من أنواع التحرش، خاصة تلك المرتبطة بعالم العمل، ونتج عنه تعرض العديد من العمال والعاملات إلى ممارسات لم يستطيعوا الإفصاح عنها، ولا يعلمون أنها مصنفة على أنها شكل من أشكال العنف والتحرش.
ومن حيث المبدأ فإن الأمر الذي يتفق عليه الجميع أننا جميعًا نرغب في أن تتخلص مجتمعاتنا من هذه الآفة، ولكننا نختلف في سعينا نحو تأمين بيئة آمنة لنا ولعائلاتنا وأبنائنا وبناتنا خالية من أي شكل من أشكال العنف والتحرش.
لماذا نسعى لعالم عمل خالٍ من العنف والتحرش؟
إنّ كل انسان له الحق في العمل ضمن عالم عمل خالٍ من العنف والتحرش ؛لكون هذه الظاهرة أو الآفة تشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وتهدد تكافؤ الفرص، وتتنافى مع معايير العمل اللائق، ناهيك عن كون التحرش في عالم العمل يؤثر على الصحة النفسية والبدنية والجنسية وكرامة الشخص وأسرته وبيئته الاجتماعية، ومن هنا كانت الدوافع لاعتماد اتفاقية دولية ضمن إطار منظمة العمل الدولية تُعنى بالقضاء على العنف والتحرش في عالم العمل والتي تحمل الرقم (190).
ما المقصود بالعنف والتحرش في عالم العمل اتفاقية (190)؟
يشير مصطلح (العنف والتحرش) في عالم العمل إلى (مجموعة من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، وتهدف أو تؤدي أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي وتشمل العنف والتحرش على أساس نوع الجنس).
إنّ هذا التعريف الجامع للعنف والتحرش لا يعني فقط ممارسات فعلية، بل أيضًا تعتبر السلوكيات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواءً حدثت مرة أو تكررت تقع تحت تعريف التحرش والعنف.
من هم الفئات التي تحميهم اتفاقية (190)؟
تحمي هذه الاتفاقية العمال والأشخاص الآخرين في عالم العمل بمن فيهم المستخدمون، كما يرد تعريفهم في القوانين والممارسات الوطنية، فضلاً عن الأشخاص العاملين، بغض النظر عن وضعهم التعاقدي، والأشخاص الضالعين في التدريب، بمن فيهم الأشخاص الضالعون في التدريب، والتلمذة الصناعية، والعمال الذين أنهي استخدامهم والمتطوعون والباحثون عن عمل وطالبو الوظائف، والأفراد الذين يمارسون سلطة صاحب العمل أو واجباته أو مسؤولياته، كما تنطبق هذه الاتفاقية على جميع القطاعات، الخاصة منها والعامة على السواء في الاقتصاد المنظم وغير المنظم في المناطق الحضرية والريفية سواء.
إنّ توسيع نطاق المشمولين في الحماية من العنف والتحرش في عالم العمل حسب اتفاقية (190) لا تشترط أن تكون موظفًا بشروط تعاقدية معينة حتى تتمتع بهذه الحماية، بل وكون هذه الاتفاقية تعتبر اتفاقية حمائية، نابعةً من حقوق الإنسان؛ فهي بالضرورة تشمل كل إنسان موجود في عالم العمل، يتعرض للعنف والتحرش؛ وبالتالي فإنه يتوجب على صاحب العمل تأمين الحماية والوقاية للموظفين بكافة أنواعهم والمتدربين وحتى أولئك الذي حضروا إلى مكان العمل؛ من أجل تقديم طلب توظيف وحتى المراجعين والمتطوعين، وهذا يضع مسؤولية كبيرة على عاتق صاحب العمل لاتخاذ تدابير وقائية، تضمن بيئة عمل آمنة، تقضي على أي ظروف قد تساعد على ارتكاب جريمة العنف والتحرش.
لماذا نستخدم مصطلح عالم العمل؟
اعتمدت اتفاقية (190) مصطلح عالم العمل بدلًا من مكان العمل أو موقع العمل أو غيرها من المصطلحات؛ لكون مصطلح عالم العمل يعتبرمصطلحًا شاملًا وواسعًا؛ وذلك لتأمين الحماية من العنف والتحرش الممكن وقوعه في سياق العمل أو تكون مرتبطة به أو ناشئة عنه:
- في مكان العمل، بما في ذلك الأماكن العامة والخاصة حيثما تشكل مكان عمل.
- في الأماكن التي يتلقى فيها العامل أجرًا أو يأخذ استراحة أو يتناول وجبة طعام أو يستخدم المرافق الصحية ومرافق الاغتسال وتغيير الملابس.
- خلال الرحلات أو السفر أو التدريب أو الأحداث أو الأنشطة الاجتماعية ذات الصلة بالعمل.
- خلال الاتصالات المرتبطة بالعمل، بما فيها تلك التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
- في أماكن الاقامة التي يوفرها صاحب العمل.
- عند التوجه إلى العمل والعودة منه.
إنّ المدقق للأماكن التي تشملها اتفاقية (190) تحت اسم عالم العمل ليدرك أن على صاحب العمل بذل كل ما يمكن للقضاء على أي فرصة لوقوع هذه الجريمة، بل وتضع على كاهله مسؤولية حماية العمال في كل مكان له صلة في العمل؛ بمعنى أن العامل يجب أن يكون محميًّا أثناء قدومه للعمل وداخل مكان العمل وفترات الاستراحة والإقامة والسفر والرحلات… إلخ، وهذا من شأنه محاصرة هذه الجريمة والقضاء عليها، وحماية العمال.
لماذا نحن بحاجة إلى اتفاقية (190)؟
بعد استعراض أبرز ما تؤمنه هذه الاتفاقية من عالم عمل خالٍ من العنف والتحرش من خلال توسيع الممارسات المشمولة على أنها تحرش وعنف وتوسيع الأماكن المحمية ضمن ما يسمى عالم العمل وتوسيع الفئات المحمية من هذه الجريمة؛ قد يقول قائل أننا في المجتمعات العربية؛ لكوننا مجتمعات تعتبر محافظةً فإن هذه الجريمة لا يمكن اعتبارها ظاهرة تستلزم كل هذه الإجراءات الحمائية والوقائية!! ولا نريد أن نقع في فخ اسقاط ما يحدث في المجتمعات الغربية على مجتمعاتنا المحافظة؛ فلكل مجتمع خصوصيته؟!
وهنا أقول صحيح -والحمدلله- أن مجتمعاتنا العربية تعتبر محافظة نوعًا ما، ولكن مع العولمة والانفتاح وشبكات التواصل فإن مجتمعاتنا تؤثر وتتأثر بشكل كبير مع باقي المجتمعات، وقد نختلف على مقدار وجود هذه الجريمة في مجتمعاتنا، وخاصة في عالم العمل، وهل يمكن وصفها بأنها ظاهرة أم لا، ولكن ما نتفق عليه جميعًا أن هذه الجريمة موجودة بالفعل، ولا بد من اتخاذ إجراءات وتدابير استباقية قبل تفاقمها وتغلغلها في المجتمع.
أعتقد أن الغاية من اتفاقية (190) هو أنها تأتي كنظام حماية ووقاية استباقي، وليست نظام عقوبات، ولعل أبرز ما يحمي المجتمعات هو وجود أنظمة حماية تصون هذه المجتمعات من الجرائم المحتملة، ومن هنا نجد على سبيل المثال أن الإسلام وضع نظام عقوبات صارم على بعض الجرائم كالسرقة والزنا مثًلا مع أن المجتمع المسلم في حينه كان يعتبر شبه خالٍ من هذه الجرائم؛ لذلك فإن المشرع أراد حماية المجتمع وصيانته من هذه الآفات، وقطع الطريق على تسربها للمجتمع، وهنا فمن حقنا السعي نحو تشريعات وقائية لنطمئن على أن أبناءنا وبناتنا سيعملون في المستقبل ضمن بيئة عمل آمنة خالية من أي شكل من أشكال العنف والتحرش، ولتبقى هذه الآفة غريبة وغير متقبلة في المجتمع.
ما المطلوب؟
باختصار فإن المطلوب هو نشر الوعي بين العمال عن حقوقهم والحمايات المقدمة لهم من خلال هذه الاتفاقية، والسعي كعمال ونقابيين وحقوقيين بالدفع باتجاه المصادقة على هذه الاتفاقية، كما يجب السعي إلى تعديل التشريعات العمالية كقانون العمل؛ حتى ينسجم مع التشريعات الدولية، وتوسيع مظلة الحمايات للعمال في مجال العنف والتحرش.
ويتوجب على النقابات العمالية عدم الانتظار لحين تعديل التشريعات الناظمة لتثبيت هذه الحمايات؛ بل يتوجب عليها تثبيتها من خلال عقود العمل الجماعية؛ وذلك عملًا بواجب هذه النقابات للسعي لتأمين بيئة عمل آمنة للعمال انطلاقًا من كون هذه الاتفاقية لم تأتِ بشكل أساسي لتعاقب مرتكبي جريمة العنف والتحرش؛ بل هي أتت لتضمن بيئة عمل آمنة، وتضع أصحاب العمل أمام مسؤولياتهم لاتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لضمان عدم حدوث هذه الممارسات بين العمال أنفسهم أو المتدربين أو المراجعين أو أي أحد يدخل عالم العمل الذي يقع ضمن مسؤوليتهم.