أن تكون حرا قبل أن تكون نقابيا
حاتم قطيش، كاتب أردني
الظلم والقهر والاستبداد والعبودية كانت هي الصفات السائدة في علاقات العمل إبّان حقبة الثورة الصناعية، وكان هذا الأمر مستساغا ومقبولا لدى أغلبية العمال، إلا أنّ فئة منهم كانت لا تزال الحرية تسري فيها مسرى الدم في العروق؛ فاتخذت قرارًا ذاتيا من أجل الانعتاق.
ولم تكن العقبة الأولى في طريق هؤلاء الأحرار نحو الانعتاق هي أصحاب العمل، بل كانت العمال أنفسهم الذين قد ترسخت في أذهانهم خلال أجيال مديدة أنهم بمجرد أن يحيدوا عن طريق القطيع فإن مصدر رزقهم سيتضرر إن لم ينقطع تماما، ولا بد إذن أن يبقوا ممسكين بالعصا من المنتصف، وأن يستخدموا لغة الطاعة والانصياع والخضوع لصاحب العمل حتى لا تتضرر مصالحهم، وهكذا قدموا أنفسهم ومصالحهم على مصالح جموع العمال.
يتحدث التاريخ دائمًا عن المواقف البطولية للعمال والنقابيين الأحرار ونضالهم؛ ولكنه يتحدث أيضًا عن طعنات الظهر التي كانت تأتيهم من أقرانهم، وعن الذي ارتضى لنفسه أن يكون وكيلاً لصاحب العمل الظالم في سبيل محاربة هؤلاء الأحرار، ومنهم أيضًا من تشربت روحه صفات العبودية؛ فتطوع لعداء هؤلاء النقابيين لمجرد أنهم يريدون له أن يكون حرًّا.
إن المعايير والاتفاقيات الدولية تتحدث دائمًا عن الحق في التنظيم النقابي باعتباره حقا من حقوق الإنسان، وليس مجرد ضرورة وظيفية، وتتحدث عن العلاقة بين صاحب العمل والعمال باعتبارها علاقة تشاركية وليست علاقة عبودية، وتقرن هذه المعايير والاتفاقيات الدولية بين الحق في التنظيم النقابي والحرية؛ فالعمل النقابي هو وسيلة العمال نحو تحقيق حريتهم، وجعل بيئة العمل بيئة لائقة، خالية من كل مظاهر العبودية والعمل الجبري.
يمكن للعامل أن يكون نقابيا بعد أنّ يخضع لبرامج تدريبية وتأهيلية على الأدوات النقابية بما فيها الإلمام بالتشريعات الناظمة لسوق العمل، وإتقان فنون المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي…إلخ، ولكن كل هذه الأدوات لن تكون ذات جدوى إن لم ترتكز على شخصية قيادية وحرة، يمتلكها هذا العامل؛ فمن أفنى عمره متأقلما ومتصالحا مع الدونية والخنوع لصاحب العمل لا يمكن له أن يجلس أمامه جلوس الند مع الند على طاولة المفاوضات… وسيكون حتما مهزوما نفسيا قبل أن يبدأ بالحوار، وسيتعامل مع ما يطرحه صاحب العمل باعتباره إملاءات يجب عليه تنفيذها، لا أطروحات يمكن له مناقشتها، بل ورفضها بالكامل إن اقضى الحال، معتمدًا في ذلك على قوة شخصيته وحجته، ومستندًا إلى قوة العمال الذين يدعمونه ويساندونه؛ لكونهم هم من اختاره ليكون ممثلاً لهم.
في علم الإدارة لطالما كان هناك جدل عن الفرق بين القائد والمدير، وهل كل مدير يصلح لأن يكون قائدًا والعكس، وعند الحديث عن النقابات العمالية أعتقد أن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا؛ فحتى أولئك الذين يمتلكون العديد من الصفات النقابية إن هم فقدوا صفة الحرية والشعور بالندية والحق في التشاركية والاستحقاق فإنهم لن يجرؤوا حتى على استثمار صفاتهم في خدمة العمال؛ فما بالكم بمن لا يمتلك إلا صفات المراوغة، ويتقن فن التلاعب بالانتخابات ونصب المكائد، ويحترف كل الأساليب المشبوهة التي تقربه من قيادة النقابة وتقصي غيره!!!
جاء في التنزيل الكريم (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، وإن من أهم صفات النقابي الحر أن يكون شريفا كريما، لا يرتضي صفة الخساسة عندما تتقلب الأحوال ويصبح ذا مسؤولية، ومقياس ذلك يكون بالنظر إلى تصرفات هذا النقابي مع من هم تحته من عمال ونقابيين؛ فترى أحيانًا من هو دائم التشكي من سوء معاملة أصحاب العمل له؛ لكونه نقابيّا إنْ هو امتلك قرارًا أو سلطة على من حوله من النقابيين أو العمال أظهر ما في نفسه من تعقيدات نفسية، ومارس أبشع أساليب الإقصاء والإيذاء، وخلع عن وجهه قناع المثالية، وعامل من حوله كعبيد؛ ليدل أن رغبته وسعيه لأن يكون نقابيًّا لم يكن بهدف رفع الظلم عن العمال، بل لرغبته في التعالي وتحقيق مصالحه على حساب الآخرين.
العمال اليوم يقع على عاتقهم العبء الأكبر في اختيار ممثليهم، وينبغي لهم ألا ينجرفوا وراء العشائرية أو المناطقية أو العلاقات الشخصية عند اختيار ممثليهم، وألا تفتنهم الشعارات البراقة وخطابات المظلومية التي يتقنها الكثير ممن يقدمون أنفسهم على أنهم نقابيون؛ وعليهم أن يبحثوا عن النقابي الحر الذي يمتلك قراره، وصاحب الوجه الواحد أمامهم وأمام أصحاب العمل، وعليهم أن يبتعدوا عن متعددي الأوجه ومحترفي الكذب والخداع.