كورونا والتباعد النقابي
عدة أشهر ولا زال العمال يدورون في رحى جائحة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على كافة جوانب حياتهم العملية والشخصية، وأصبحت كلمة “التباعد” هي اللازمة التي ترافق أية تعليمات لمكافحة الجائحة التي تعامل معها الجميع على أنها “شر لا بد منه” وأمر غير طبيعي مؤقت لظرف غير طبيعي.
النقابات العمالية التي طالما اتهمها العمال أنها تنأى بنفسها عن العمال وتترك مسافة تباعد بينها وبينهم ليس خوفاً من كورونا بل هو أسلوب عمل يعتمد الابتعاد عن الاحتكاك المباشر مع العمال والأضواء والرغبة في العمل في الظل والابتعاد بؤرة التركيز تفادياً للمواجهة المباشرة مع العمال الغاضبين.
التباعد النقابي في النقابات العمالية ليس أسلوباً غير مألوف ولا هو ظرف غير عادي، ما جعل العمال لا يشعرون بأي تغيير يذكر في أسلوب العمل النقابي، فالعديد من النقابات غائبة متوارية طوال الوقت وقد زادها الحظر غياباً فوق غياب وتباعد فوق تباعد.
العمل النقابي يقوم على الاشتباك
إن ما يميز القائد النقابي العمالي كونه قائد ميداني خرج من رحم معاناة العمال ويشتبك اشتباكاً مباشراً مع التحديات التي يعيشها العمال، فلا يصلح أن يكون النقابي حبيس مكتبه “الفاره” ولا أن يقبع خلف الأبواب الموصدة ولا أن ينحصر نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي بتغيير صورة شخصية أو مشاركة سهرة شبابية أو تعزية وتهنئة في المناسبات الاجتماعية.
لا يجوز أن يبقى قائداً نقابياً كل من غادر سوق العمل، ولا يجب أن يكون قائداً نقابياً كل من آثر الابتعاد عن العمال وهمومهم، ولا يصح أن يكون قائداً نقابياً كل من مارس رقابة ذاتية على ما ينشره في صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي حتى لا “يتورط”، ولا يقبل أن يكون قائداً نقابياً من انتهج أسلوب مسك العصا من المنتصف ليرضي العمال وصاحب العمل والحكومة؛ فالعديد ممن ينصبون أنفسهم كقادة نقابيون يريدون أن يكونوا على علاقة حميمية مع أصحاب العمل وتبقى صفحته بيضاء لا تشوبها أي شائبة ولا يتم تصنيفه على أنه “مشكلجي” عند الحكومة وبنفس الوقت يظهر على أنه مناضل نقابي!!
التباعد الجسدي لا يعني تباعداً نقابياً
لا شك أن مصلحة العمال والمجتمع برمته تكمن في التباعد الجسدي واتباع تعليمات السلامة فيما يخص جائحة كورونا، ولعل من أبرز تحديات العمل النقابي -قبل كورونا- هو التواصل مع العمال والوصول إليهم وإقناعهم بجدوى العمل النقابي وتبليغهم بالبيانات النقابية واطلاعهم على آخر المستجدات والاستماع لمشاكلهم، ولعل نقابيو اليوم محظوظون أكثر من نقابيي الأمس بوجود التكنولوجيا التي سهلت العمل النقابي واختصرت كثير من الجهد المبذول على النضال النقابي ليوجه النقابيون جهودهم وأفكارهم وإبداعهم نحو آفاق جديدة توسع فضاء العمل النقابي.
إن ظروف التباعد القسري الذي فرضته كورونا قد شكل من ناحية أخرى بيئة خصبة للتشبيك النقابي، ففي الوقت الذي كان يعتبر استخدام العمال للتكنولوجيا أحد التحديات في اطار الأشكال الجديدة للعمل بشكل عام والعمل النقابي بشكل خاص؛ فقد أجبرت جائحة كورونا الجميع على الاندماج القسري مع التكنولوجيا وشكلت الخيار الوحيد للتواصل مع الآخرين في ظل أشهر عديدة من الحظر كان الناس فيها حبيسو منازلهم.
من لم يتمتع بالمرونة النقابية بقي حبيس جموده
إن من أهم صفات النقابي المميز والناجح هو المرونة والتأقلم مع المتغيرات الجديدة والكثيرة في عالم العمل، ومن البديهي أيضاً أن النقابيون يتمايزون في مرونتهم وقدرتهم على امتصاص صدمات التغيرات المفاجئة ليعودوا من جديد ويرتبوا أوراقهم وينظموا صفوفهم ويستثمروا التحديات والمتغيرات الجديدة كنقاط قوة ومجال جديد للعمل؛ أما أولئك الجامدون حبيسو التفكير التقليدي الرتيب الذين لا يمتلكون مَلَكة الابداع فقد زادتهم الجائحة وحظرها مزيداً من الانعزال وحلكة اضافية للعتمة التي يقبعون بها.
من لم يكن له خطته الخاصة كان جزءاً من خطط الآخرين
كثيراً ما تصف الحكومات وأصحاب العمل القائمين على العمل النقابي العمالي ونقاباتهم بالفوضوية وبرمجة العمل النقابي على أسلوب “الفزعة” أو قل على نظام ” ما يطلبه المستمعون” فيقدمون العمل في القضايا التي تجلب لهم مزيداً من الشعبوية في صفوف العمال وإن كانت ليس ذات أولوية؛ ويؤخرون العمل في القضايا المهمة كتحقيق العمل اللائق ومكافحة العمل الجبري ومكافحة العنف والتحرش في عالم العمل، كون هذه القضايا لا ترتبط بشكل مباشر بأصوات العمال المنتخبين في الدورات الانتخابية القادمة.
إلا أن النقابات العمالية التي تفرز نقابيين أكفاء وتعمل بمؤسسية واضحة وضمن خطط مدروسة لا يضيرها التحديات الطارئة فهي تمتلك من المرونة ما يمكنها من التعديل بالوسائل والأدوات لتحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها، وبغير ذلك سينحصر أداء هذه النقابات بالانخراط ضمن خطط الآخرين لتكون أداة تنفيذ ووسائل لتحقيق الأهداف التي وضعها غيرهم.
القطار لم يفت بعد
ان القارئ للمقال قد يصاب بشيء من الاحباط على الواقع الأليم الذي تعيشه النقابات العمالية، ولكن كما أن من الواجب تسليط الضوء على الثغرات والعيوب فإن من الواجب أيضاً الالتفات للنصف المليء من الكوب فالنقابات العمالية تزخر بالطاقات الشبابية المبدعة إن أحسنت هذه النقابات استقطابهم والاستفادة من خبراتهم وإبداعهم كسرت بذلك جمودها وحركت المياه الآسنة فيها وبعثت الحياة في خطابها، وصحيح أن الجائحة مضى عليها عدة أشهر إلا أن الوقت لم يفت بعد وأن تصل متأخراً خير من أن لا تصل مطلقاً وما لا يدرك كله لا يترك جُله ويبدو أن الجائحة ضيف ثقيل سيطيل الزيارة ووجب على الجميع التعامل معها بنفَس طويل وخطط ملائمة.
حاتم قطيش-كاتب أردني
00692786875154
hqtaish@gmail.com