مقالات أخرى

النقابات العمالية بين الواجب الوطني والوظيفة الاقتصادية… قراءة في إطار رؤية عُمان 2040

خليفة بن سيف الحوسني، رئيس قسم البرامج والتوعية القانونية، الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان

منذ أن ولدت فكرة التنظيم النقابي في رحم التحولات الاجتماعية الكبرى التي صاحبت الثورة الصناعية، والنقابات ليست مجرّد كِيان مطلبي أو صوت احتجاجي للعامل، بل هي في أصل فلسفتها تجسيد لإرادة جماعية، تسعى إلى تحقيق العدالة في علاقات الإنتاج، وإلى إقامة ميزانٍ عادل بين رأس المال والعمل، وبين من يملك ومن يُنتج، وإذا كان التاريخ قد حمّل النقابات في بداياتها همَّ الدفاع عن الحدّ الأدنى من كرامة العامل في مواجهة الاستغلال، فإن تطور الوعي الاجتماعي والاقتصادي، أخرجها من دائرة الصراع الطبقي الضيقة إلى فضاء المشاركة الوطنية الرحب، فاضحت شريكًا في صنع القرار الاقتصادي، وأداة من أدوات التنمية المستدامة([1]).

ولئن كانت المجتمعات الصناعية الأولى قد ربطت ظهور النقابات بضرورة تقييد سلطة ربّ العمل وتنظيم شروط العمل، فإنّ التجربة العمانية قد صاغت من العمل النقابي معنىً يتجاوز تلك الصيغة الجدلية؛ إذ جعلت منه صورة من صور المشاركة الوطنية في بناء الدولة الحديثة، فمنذ صدور المرسوم السلطاني رقم (74/2006) بشأن التعديلات على قانون العمل العماني([2])، والذي شكّل البداية الحقيقة للنقابات العمالية في سلطنة عُمان، وما تبعه من تشريعات داعمة، اتّسع الإطار القانوني للعمل النقابي حتى غدا جزءًا لا يتجزأ من المنظومة المؤسسية لرؤية عُمان 2040، التي جعلت الإنسان محور التنمية وغايـتها، والعمل المنتج قاطرةً للنمو والازدهار؛ وعليه نجد أن النقابات العمالية في جوهرها، تعبير عن مبدأ المشاركة، وعن إيمان الحكومات بأن توازن علاقات العمل لا يتحقّق بالرقابة وحدها، بل بالشراكة المسؤولة بين أطراف الإنتاج، وقد أدرك المشرّع العماني في وقت مبكر أن العمل النقابي ليس خصمًا لربّ العمل، ولا منازعًا للدولة في سلطتها، بل هي جسر تواصل مؤسسي بين مصالح العمال وحاجات الاقتصاد الوطني؛ فمن هذا المنطلق جاءت النصوص القانونية لتقر بوضوح حرية تكوين النقابات العمالية والانضمام إليها، وَفق الضوابط التي تضمن استقلالها عن أصحاب العمل والجهات الإدارية في آنٍ واحد.

ولئن كانت التشريعات المحلية قد منحت النقابات العمالية الشخصية الاعتبارية، فإن الواقع الاجتماعي هو الذي أضفى عليها بعدها الاقتصادي؛ فالنقابات في تصور الفكر القانوني الحديث، لم تعد مجرد هيئة تمثيلية، تُفاوض باسم العامل، بل أصبحت مؤسسة اقتصادية تساهم -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- في إدارة سوق العمل وتنظيمه؛ إذ إنّها حين تجوّد بيئة العمل، وتحسّن شروطه وظروفه وأجوره، وتشارك في التدريب المهني وإعادة التأهيل، فإنّها بذلك تؤدي وظيفة اقتصادية خالصة، تفضي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة الأداء، وهو ما يعد أحد ركائز التنمية في رؤية عُمان 2040([3])، وبما أن المشرّع العماني قد استلهم روح الاتفاقيات الدولية، الصادرة عن منظمة العمل الدولية، لا سيّما الاتفاقيتين رقم (87) بشأن الحرية النقابية، ورقم (98) بشأن حق التنظيم والمفاوضة الجماعية بالرغم من عدم المصادقة عليها حتى تاريخه([4])، أراد للنقابات أن تكون صوتا وطنيا ناضجا، ومن ثَم أتاح لها أن تمارس دورها ضمن حدود القانون، وأن تشارك في المفاوضات الجماعية، وفي لجان الحوار الاجتماعي؛ لتساهم في ترشيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بسوق العمل.

وعلى هذا الأساس، يصبح من الخطأ أن تختزل النقابات العمالية في وظيفتها المطْلَبية؛ فهي ليست أداة للمطالبة بالأجور وحدها، بل هي إطار لتنظيم المصالح الاجتماعية، وميدان لترسيخ قيم الانتماء والمسؤولية، بل يمكن القول أن النقابات العمالية هي المدرسة الأولى للمواطنة الاقتصادية، يتعلم العامل في أروقتها أن التنمية ليست منحة تعطى، وإنما ثمرة جهد مشترك بين الدولة والمجتمع؛ فالوظيفة الاقتصادية للنقابة تتجلّى -قبل كل شيء- في إرساء قواعد السلم الاجتماعي داخل سوق العمل، وهو شرط لا غنى عنه لأي تنمية اقتصادية مستقرة، فحيث يسود الحوار، تنتفي الحاجة إلى الإضراب، وحيث توجد العدالة في توزيع العائد، تزدهر روح العمل والإنتاج، وقد بينت الدراسات الحديثة أن البلدان التي تتمتع بنقابات مستقلة وفاعلة تحقق معدلات أعلى من النمو الاقتصادي؛ لأن النقابات تمثّل قناة مؤسسية لتنظيم المطالب الاجتماعية وتوجيهها ضمن الأطر القانونية، بدل أن تتحوّل إلى توترات عمالية غير محسوبة([5])، وفي السياق المحلي، تبدو النقابات مدعوة اليوم إلى تجاوز دور الوسيط بين العامل ورب العمل إلى مرتبة الشريك في التنمية، من خلال المشاركة في رسم السياسات القطاعية، والمساهمة في البرامج الوطنية للتشغيل، وتفعيل دورها في التدريب والتوعية لسوق العمل المتغيّر؛ إذ لم يعد العمل النقابي مجرّد نشاط اجتماعي، بل أصبح وظيفة اقتصادية ترتبط بإدارة الموارد البشرية في مؤسسات الإنتاج، وتساهم في دعم تنافسية الاقتصاد العماني إقليميا ودوليا، وإذا كانت رؤية عُمان 2040 قد جعلت اقتصاد المعرفة، والتمكين البشري محورين رئيسيين في مشروعها المستقبلي، فإن النقابات العمالية تملك -من خلال بنيتها المؤسسية- قدرة فريدة على المساهمة في تحقيق هذين الهدفين؛ فهي الأقدر على رصد احتياجات سوق العمل الحقيقية، ونقلها إلى صانع القرار، كما أنّها الأقدر على إشاعة ثقافة العمل المنتج والالتزام المهني بين القوى العاملة، فالتنمية لا تقوم على رأس المال وحده، وإنما على الإنسان العامل، والنقابات هي الإطار الذي يصون هذا الإنسان ويرقّي قدراته.

ومن هنا، يتبيّن أن النقابات ليست كيانا موازيا للدولة، بل امتدادٌ اجتماعي لها في المجال الاقتصادي؛ فهي تمارس -في حدود صلاحياتها- نوعا من الوظيفة العامة، لأنها تساهم في تحقيق مصلحة عامة هي استقرار سوق العمل وتنمية الإنتاج الوطني، ويرى السنهوري باشا -في إطار تحليله لوظيفة التنظيم القانوني للجماعات المهنية- أن القانون، حين يُعنى بتنظيم تلك الجماعات، إنما يُساهم في بناء الأمة من داخلها، إذ يُحوِّل المصالح الجزئية إلى مصالح عامة منضبطة في كيان الدولة القانونية الحديثة، بحيث يكون كل تنظيمٍ مهنيّ سليم لبنةً في بناء هذا الكيان([6]).

ولقد أدركت سلطنة عُمان، منذ بدايات نهضتها الحديثة، أن التنمية ليست أرقاما في الميزانيات العامة، بل منظومة بشرية، قوامها الإنسان المنتج، وأن العامل هو الركن الأول في كل مشروع وطني، ومن هنا لم تكن النقابة في الفكر العماني مجرّد وسيلة للدفاع عن المصلحة الفردية للعامل، بل كانت تجسيدا للواجب الوطني في صورته الجماعية، فالعمل النقابي وهو يتحرك ضمن مظلة القانون ورعاية الدولة، إنما يمارس دورا مزدوجا، يتمثل في الدفاع عن حقوق العامل، والمساهمة في أداء الواجب نحو الوطن، والواجب الوطني للنقابات لا يُقاس بمدى قدرتها على المطالبة بالأجر العادل فحسب، بل بقدرتها على أن تكون شريكا في بناء الاقتصاد الوطني الحديث، من خلال المشاركة في صياغة السياسات الاجتماعية، وتقديم الرأي في التشريعات العمالية، والمساهمة في التوازن بين مصالح الأطراف الثلاثة العامل، وصاحب العمل، والدولة، ومن هنا تتجلّى فكرة الشراكة الثلاثية التي أرساها قانون العمل، والتي تضع النقابات في قلب المنظومة الاقتصادية، لا على هامشها، ولئن كان المشرّع قد منح النقابات حرية التنظيم والمفاوضة، فإن هذه الحرية لا ينبغي أن تُفهم بمعناها الفردي، بل بمعناها الوطني، إذ تُمارس في إطارٍ من المسؤولية الاجتماعية، فالنقابات التي تتبنّى الحوار والتعاون، وتُساهم في حل النزاعات العمالية بأساليب الحوار والمفاوضة، إنما تحمي الاقتصاد الوطني من اضطرابات قد تعرقل مسيرة التنمية.

وإذا كان بعض الفقهاء يرى أن النقابات وجدت لتكون في مواجهة رأس المال، فإنّ التجربة العمانية أثبتت أن التوازن لا يتحقق بالصراع، بل بالتكامل، فالنقابات في تصورها الحديث، ليست قوة ضغطٍ بل قوة توازن، تذكّر أصحاب العمل بأن العامل ليس آلةً، وتذكّر العمال بأن المنشأة ليست خصمًا، بل مصدر رزقهم ومصدر استقرارهم، وهكذا تتجاوز النقابات الدور المصلحي إلى وظيفة أخلاقية ووطنية تساهم في ترسيخ ثقافة العمل المنتج والتعاون الاجتماعي، ولعلّ من أبرز ما يميز التجربة النقابية العمانية أنّها تتجه اليوم نحو مأسسة المشاركة في صنع القرار الاقتصادي، فقد شرعت بعض النقابات في القطاعات الحيوية في تقديم مقترحات فنية واقتصادية، تساهم في رفع كفاءة الأداء، وتحسين الإنتاج، وهو ما يترجم على أرض الواقع مفهوم المواطنة الاقتصادية الذي أشارت إليه رؤية عُمان 2040، باعتبار أن كل عامل شريك في صناعة مستقبل الوطن، وهنا يثور التساؤل كيف يمكن للنقابات أن تتحول من كيانٍ مطلبي إلى قوة إنتاجٍ وتنمية؟

الإجابة تكمن في إعادة تعريف مفهوم العمل النقابي نفسه، فالنقابة ليست فقط لرفع الأجور، بل لتأهيل القوى العاملة لمواكبة الاقتصاد الرقمي، وتشجيع الابتكار في بيئة العمل، والمساهمة في تصميم برامج التدريب بالتعاون مع مؤسسات التعليم والتشغيل، فبهذا المدلول تغدو النقابة أداةً لتطبيق السياسات الاقتصادية الكبرى على مستوى القاعدة الإنتاجية، فتتحول من ميدانٍ للمطالبة إلى مؤسسةٍ للتنمية.

إن التحديات التي تواجه العمل النقابي في سلطنة عُمان -كما في غيرها من الدول النامية- لا تنفصل عن التحديات الاقتصادية العامة، وعلى رأسها ضعف الوعي النقابي في بعض القطاعات، وتشتت الجهود بين النقابات العامة القطاعية، والحاجة إلى مزيدٍ من التدريب في إدارة الحوار الاجتماعي، غير أن هذه التحديات، وإن بدت صعوبات راهنة، فإنها تمثل في الوقت نفسه ممكنات مستقبلية، لأنها تُظهر الحاجة إلى نقابات أكثر نضجا وقدرة على الابتكار، وتكمن الخطوة القادمة في ترقية التشريعات ذات الصلة بالعمل النقابي، بما يتيح مزيدا من المرونة للنقابات في العمل المشترك، والمشاركة في وضع الإستراتيجيات والسياسات العامة، فالتجارب الدولية تظهر أن النقابات -التي تشارك في التخطيط الاقتصادي- تساهم في رفع معدلات التشغيل، وتحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وهذا هو جوهر ما تسعى إليه رؤية عُمان 2040 حين جعلت العدالة وتكافؤ الفرص ركائز أساسية للتنمية المستدامة.

ولئن كان الاقتصاد الحديث يقوم على المعرفة والابتكار، فإنّ النقابات مطالبة اليوم بأن تكون منبرًا للمعرفة المهنية، يربط بين العامل والتقنية، ويجعل بيئة العمل مختبرًا للخبرة والإبداع، وعندئذٍ لا تكون النقابة ظلًّا للمؤسسة ولا خصمًا لها، بل عقلها الجمعي وصوتها الإنساني في آنٍ واحد، وهنا، يعود بنا المعنى إلى الفلسفة العُمانية الأصيلة في بناء الإنسان قبل البنيان؛ فكل عملٍ نقابيٍ ناضجٍ هو في جوهره عملٌ وطني، وكل نقابةٍ فاعلةٍ هي ذراع من أذرع الدولة في تحقيق استقرارها الاجتماعي ونموّها الاقتصادي، وفي تقديري الشخصي إن النقابات العمالية -في بعدها الحديث- لم تعد مجرد تنظيم مطلبي، بل غدت مؤسسة وطنية ذات رسالة سامية، وبقدر ما تلتزم بضوابط القانون، ينبغي أن تنفتح على الفكر الاقتصادي الجديد، فتتحول إلى مراكز تفكير ومبادرات مجتمعية تُساهم في رفع الإنتاجية وتوطين العمل وتعزيز التماسك الاجتماعي، وعندئذٍ يغدو العمل النقابي أحد أعمدة النهضة العمانية المتجددة، ووجها من وجوه تحقيق رؤية عُمان 2040 في أفقها الإنساني والاقتصادي الواسع.


[1]  محمد الصغير بن غربي، العمل النقابي ومهامه الاقتصادية والاجتماعية، مجلة الدراسات الاقتصادية، العدد 38، الجزائر، 2019، ص246.

[2]  المرسوم السلطاني (64/2006)، صدر في: ١٢ من جمادى الثانية سنة ١٤٢٧هـ، الموافق: 8 من يوليو سنة ٢٠٠٦م، المنشور بالجريدة الرسمية العدد رقم (819)، ص 22.

[3]  رؤية عُمان 2040، المحور الاقتصادي والحوكمة، مكتب الرؤية، 2020، ص45.

[4]  للاطلاع على تفاصيل اتفاقيتا منظمة العمل الدولية رقم (87) و(98)، أنظر: موقع منظمة العمل الدولية https://www.ilo.org/.

[5]  علي عبد الفتاح، الحرية النقابية والتنمية الاقتصادية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2015، ص62.

[6]  عبد الرزّاق السنهوري، أصول القانون: نظرية الحق، الطبعة السابعة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1964م، صـ 25، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، 1952م، ص 8، حيث يقرر أن الجماعات القانونية المنظمة تسهم في تكوين البنية الاجتماعية للدولة القانونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى