هل سيطغى اقتصاد المعرفة على الوظائف التقليدية مستقبلا؟
مشاري النجار، كاتب سعودي
مع بداية القرن الحادي والعشرين وبداية الألفية الثالثة حدثت تغييرات جذرية في الاقتصاد العالمي والحياة الاجتماعية خصوصًا مع استمرار تنامي الثورة الصناعية الثالثة، والتي تعتمد أساسًا على التكنولوجيا من الأجهزة الإلكترونية إلى التكنولوجيا الرقمية المتاحة اليوم، والتي شملت الكمبيوتر الشخصي والإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وللمعرفة دور كبير في جميع الثورات الصناعية الأولى والثانية، وازداد تأثيرها في الثالثة وأصبحت وقودا أساسيّا للثورة الصناعية الرابعة، التي نحن على أعتابها اليوم؛ بل بدأت بشكل واضح، وأصبحت الدول والحكومات تضع الخطط والأهداف، وتستشرف المستقبل للاستفادة منها، وجعلها ركيزة أساسية لتحسين نمط الحياة وجودتها، وكذلك توليد الوظائف والإسراع في إمكانية ارتفاع حجم إيراداتها الاقتصادية بشكل كبير بعيدًا عن الموارد الطبيعية، مثل: البترول، وتأكيدًا لأهميتها، واكتساحها كل دول العالم، وتأثيرها المباشر والكبير في خلق الثروات الاقتصادية.
إذا ما عدنا إلى تعريف اقتصاد المعرفة، فقد عرفه التقرير الإستراتيجي العربي بأنه: اقتصاد جديد، فرضته طائفة جديدة من الأنشطة المرتبطة بالمعرفة وتكنولوجيا المعلومات، ومن أهم ملامحه التجارة الإلكتروني، أما منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فقد عرفته بأنه: ذلك الاقتصاد المبني أساسًا على إنتاج المعرفة والمعلومات واستخدامها ونشرها، وعرفها البنك الدولي بأنه: الاقتصاد الذي يعتمد على اكتساب المعرفة وتوليدها ونشرها واستثمارها بفاعلية لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متسارعة.
وقد ساهمت المعرفة بشكل أساسي في جميع الثورات الصناعية كما ذكرنا؛ إذ بدأت الثورة الصناعية الأولى مع إحلال الآلة محل العمل اليدوي وانتشارها؛ وذلك ما شهدته أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وما صحبه من نهضة علمية شاملة وأبحاث وتجارب متنوعة في مختلف العلوم، واستمر ذلك في القرن التاسع عشر، ازداد معه استخدام الطاقة البخارية، وتطوير الآلات، وظهور المصانع، صاحبه ارتفاع في معدل النمو السكاني وتأثيرات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أوروبا والعالم.
وقبل الثورة الصناعية الأولى كانت الأرض والزراعة والعمالة هي أساس اقتصاد المجتمعات، وبين عامي 1870 وحتى 1914 قبل الحرب العالمية الأولى، وما بعدها حدثت ابتكارات جديدة، وتوسع ونمو للصناعات القائمة، وظهور صناعات جديدة، مثل النفط والكهرباء والهاتف والمصباح وتم اعتبار ذلك حقبة الثورة الصناعية الثانية.
ونعود لليوم حيث بدأنا فعليا في الثورة الصناعية الرابعة (ثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات)؛ فقد جاء (إتقان الثورة الصناعية الرابعة) عنوانًا للاجتماع السنوي لـلمنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2016 في مدينة دافوس السويسرية.
وتتميز الثورة الصناعية الرابعة باختراق التكنولوجيا الناشئة في عدد من المجالات، بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وسلسلة الكتل، وتكنولوجيا النانو، والحوسبة الكميّة، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والمركبات المستقلة.
في كتابه (الثورة الصناعية الرابعة) يصف الأستاذ كلاوس شواب، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، كيف أن هذه الثورة الرابعة تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الثلاثة السابقة، التي تميزت بشكل رئيسي بالتقدم التكنولوجي؛ إذ تتمتع هذه الثورة بإمكانيات كبيرة للاستمرار في توصيل مليارات الأشخاص إلى الويب، وتحسين كفاءة الأعمال والمؤسسات بشكل جذري، والمساعدة في تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول.
وإذا ما نظرنا إلى دور اقتصاد المعرفة ومسيرة الثورات الصناعية وجدنا الأثر المباشر والأساسي كليًّا في ذلك، وكذلك التأثير الواضح لتغيير الوظائف وفرصها وأشكالها واتجاهات سوق العمل، وهذا ما جعل الباحثين والمتخصصين وطالبي الوظائف يتساءلون عن مستقبل الوظائف، وأهمية مستقبل المهارات، ورأينا كذلك تحرك الحكومات لإقرار التشريعات والبرامج والمستهدفات لمواكبة هذه التغييرات الكبيرة، وكيفية توليد الوظائف والتعامل مع البطالة الناتجة عن إحلال الذكاء الاصطناعي والروبوت محل الإنسان، والتهديدات الناتجة عن ذلك، وكيفية الاستفادة من الفرص الاستثمارية والاجتماعية للمستقبل.
تشير دراسة حديثة صادرة عن معهد ماكينزي العالمي إلى أن ما يقرب من خمس القوى العاملة العالمية سيتأثر باعتماد الذكاء الاصطناعي الأتمتة، مع التأثير الأكثر أهمية في الدول المتقدمة، مثل: المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة، وبحلول عام 2022 يعتقد أنّ 50 % من الشركات أن الأتمتة ستقلل عدد موظفيها بدوام كامل، وبحلول عام 2030ستحل الروبوتات محل 800 مليون عامل في جميع أنحاء العالم.
اكتساب مهارات المستقبل
هناك صلة وثيقة بين اقتصاد المعرفة واكتساب مهارات المستقبل؛ إذ أن ذلك يعد توظيفًا للقدرات البشرية، وتفعيلًا للعقول للمساهمة في تنمية المجتمعات وتقوية اقتصادها؛ فقد حددت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 2001 مهارات الاقتصاد المعرفي في المهارات الآتية: مهارات الاتصال، ومهارات حلّ المشكلات، ومهارات القدرة على العمل ضمن الفريق، ومهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بينما حدد البنك الدولي عام 2003 مجموعة من المهارات التي يتطلب اكتسابها للأفراد في ضوء توجهات الاقتصاد العالمي، وتمثلت في المهارات الفنية، والمهارات الشخصية، والمهارات المنهجية. وتضمّنت المهارات الفنية: القراءة والكتابة، واللغة الأجنبية والرياضيات والعلوم، وحلّ المشكلات، والمهارات التحليلية، بينما تضمّنت المهارات الحياتية: مهارات العمل الجماعي، ومهارات القيادة، ومهارات الاتصال، وتضمّنت المهارات المنهجية: القدرة على التعلم الذاتي لمتابعة التعلم مدى الحياة، والتصدي للمخاطر والتغييرات.
وأشار تقرير حديث صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن ما يقرب من 65 % من الوظائف التي سيشغلها طلاب المدارس الابتدائية الحاليين في المستقبل لا توجد حتى الآن، ومع تزايد تأثير الأتمتة الناجمة عن التطورات التكنولوجية على الأعمال يبرز سؤال مهم عن ماهية المهارات التي تحتاجها الأجيال القادمة؟ تنص الإجابة وفق المنتدى الاقتصادي العالمي على أن المهارات العشرة المطلوبة عام 2020 وما بعد هي: حل المشكلات المعقدة، التفكير الناقد، الإبداع، إدارة الأفراد، التنسيق مع الآخرين، الذكاء العاطفي، المحاكمة العقلية، واتخاذ القرارات، التوجه الخدمي، التفاوض، المرونة المعرفية.
وسنتطرق الآن إلى أهم المشاريع والمبادرات في المملكة العربية السعودية:
أتاحت رؤية السعودية 2030 فرصًا كبيرة للاستفادة من القدرات البشرية والتقنية والاستثمار في المجالات الواعدة، ومنذ إطلاق الرؤية بدأت السعودية فعليا في تغييرات إصلاحية هيكلية، وشاملة على جميع المستويات في سن التشريعات والقوانين، وإطلاق البرامج والمبادرات، ومتابعة تنفيذها؛ لضمان تحقيق مستهدفاتها.
برنامج تنمية القدرات البشرية
يسعى البرنامج إلى أن يمتلك المواطن قدراتٍ تمكنه من المنافسة عالميًّا من خلال تطوير مهاراته الأساسية ومهارات المستقبل، وتنمية المعارف، وتحضير الشباب لسوق العمل المستقبلي المحلي والعالمي، وتعزيز ثقافة العمل لديهم، وتنمية مهارات المواطنين عبر توفير فرص التعلم مدى الحياة، ودعم ثقافة الابتكار وريادة الأعمال.
مشاريع (نيوم) و(ذا لاين) و(أكساجون)
يركز مشروع (نيوم) على 9 قطاعات استثمارية متخصصة، تشمل: مستقبل الطاقة والمياه، ومستقبل التنقل، ومستقبل التقنيات الحيوية، ومستقبل الغذاء، ومستقبل العلوم التقنية والرقمية، ومستقبل التصنيع المتطور، ومستقبل الإعلام والإنتاج الإعلامي، ومستقبل الترفيه، ومستقبل المعيشة، ويهدف مشروع (ذا لاين) لبناء مدينة مليونية بطول 170 كم، تحافظ على 95% من الطبيعة في أراضي (نيوم)، ويعتبر مشروع (أوكساجون) المحرك الاقتصادي والصناعي لمدينة نيوم؛ إذ سيقود الابتكار في الصناعة والتقنية، وسيجذب نخبة العقول والمواهب العالمية.
مبادرة مهارات المستقبل
دشّنت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات مبادرة مهارات المستقبل، بمستهدفات 200 ألف متدرب ومتدربة، و30 ألف موظف في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات بنهاية 2025؛ وذلك عبر عدة برامج متنوعة، تشمل معسكرات تدريبية بالتعاون مع شركاء عالميين ومحليين، والتدريب على رأس العمل في شركات عالمية ومحلية، بهدف بناء جيل يملك المهارات التي تؤهله لتغطية الاحتياج المعرفي الرقمي، وتلبية متطلبات سوق العمل.
الحكومة الذكية
إستراتيجية الحكومة الذكية للفترة (2020-2024) التي تتوافق مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وتتجه نحو رؤية المملكة 2030، وتنطلق منها عدة مبادرات في تأهيل القدرات البشرية وتمكينها، وإنشاء المنصات الرقمية والمختبرات المفتوحة للابتكار، وتمكين الحكومة الرقمية، وحوكمة أعمالها، ومنها كذلك الأكاديمية الرقمية، وتطوير المناهج الدراسية، وتعزيز القطاع الخاص المحلي، وتحسين قدراته، وإشراك المواطنين الفاعلين، وإقرار التشريعات واللوائح الحكومية المستقبلية، وحوكمة البيانات، والهوية الرقمية.
الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي
جاء إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) في 30 أغسطس 2019؛ لتعمل على تطوير إستراتيجية السعودية للبيانات، وتلعب دورا في خلق قطاعات اقتصادية متنوعة، كما تتولى مهام تطوير الكوادر السعودية في مجال.
القمة العالمية للذكاء الاصطناعي
القمة العالمية للذكاء الاصطناعي هي قمة وملتقى سنوي عالمي لتبادل الخبرات، وعقد الشراكات بين الجهات والشركات الفاعلة في عالم البيانات والذكاء الاصطناعي على الصعيدين المحلي والدولي، وتستضيفها المملكة العربية السعودية.
مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية
مؤسسة علمية حكومية، تضطلع بدور رئيسي في التخطيط للعلوم والتقنية في المملكة العربية السعودية بما في ذلك المشاركة في إعداد الخطط الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار، ووضع الإستراتيجيات اللازمة لتنفيذها، ودعم البرامج والمشاريع الخاصة بالبحوث العلمية.
الهيئة السعودية للفضاء
تهدف الهيئة لتنظيم كل ما له صلة بقطاع الفضاء، وتعمل لتعزيز الأمن والحماية للقطاع من أي مخاطر محتملة، وتشجع الأنشطة البحثية والصناعية المتصلة بالفضاء، وتنمي الكوادر الوطنية المتخصصة في المجال.
وفي جلسة نقاش حوارية نظَّمتها مجلة (القافلة) التابعة لشركة أرامكوا وبالتعاون مع الهيئة الملكية بالجبيل أوضح المدير التنفيذي للموارد البشرية في مشروع (نيوم) الأستاذ أمين بخاري بأن الشركة تسعى إلى البحث عن المواهب والمهارات من خلال استقطاب الفئات التالية:
- أصحاب المواهب والأفكار الإبداعية، مؤكدًا أن نيوم لن تفكر في التخصصات أو الشهادات التي يحملها الشخص، أو سنوات خبرته بقدر تفكيرها بالقيمة المضافة التي سيحققها، وبكونه عاملًا مهمًا في التغيير والابتكار والتحديث.
- ذوو التخصصات المتعدَّدة، الذين يتعلمون أمورًا مختلفة ومتعدِّدة بدلًا من الاقتصار على تخصص واحد.
- الحالمون، والمبتكرون، والمشغوفون، مؤكدًا على البحث عن أشخاص طموحين لبناء المستقبل، والطاقة التي يجلبها المتقدِّم إلى قاعة المقابلة الشخصية من أول الأمور التي نقيمها في المقابلات الشخصية؛ هل الشخص لديه طاقة إيجابية في طريقة تحدُّثه؟ هل لديه شغف لتحقيق هذه الأهداف؟
تطابق المهارات مع احتياجات أصحاب العمل
وفي نفس جلسة النقاش الحوارية لمجلة (القافلة) أعلنت المديرة التنفيذية للإطار الوطني للمؤهلات بهيئة تقويم التعليم والتدريب الدكتورة خلود أشقر عن وجود نظام تقني في هيئة تقويم التعليم والتدريب لتسجيل جميع المؤهلات الموجودة في المملكة، تم بناؤها من خلال معايير محدَّدة ومصنَّفة عالميًّا، وحقنها بمهارات وجدارات في منظومة تقنية، تمكّن أصحاب العمل والطلاب وأولياء الأمور من أن يدخلوا إلى الموقع الإلكتروني للاطلاع على المؤهلات المعترف بها على المستوى الوطني.
وأضافت قائلة: إن أي مؤهل لا يتماشى مع هذه المعايير لن يتم تسجيله؛ فجميع المؤهلات يجب أن تتسق مع هذه المعايير ليتم تسجيلها ضمن منظومة المؤهلات الوطنية، بالإضافة إلى مؤهلات الكادر الوطني التي ستربط مع حساب أبشر للمواطن؛ بحيث يستطيع الشخص الدخول إليه عن طريق رقم الهوية الشخصية لتظهر له جميع المهارات والجدارات والشهادات والمؤهلات التي حصل عليها.