منظومة إدارة الابتكار واقتصاد المعرفة في سلطنة عُمان
الدكتورة بدرية بنت ناصر الوهيبية، باحثة في المجالات الثقافية والاجتماعية
أولت سلطنة عُمان اهتماما كبيرا في كل ما يتعلق باقتصاد المعرفة والابتكار، وهما خطان يسيران بشكل متوازٍ، وتمثلت علاقتهما بالطردية؛ فكلما زادت قوة ممكنات الابتكار زادت قوة اقتصاد المعرفة في تحقيق منظومة اقتصاد وطنية متنوعة ومتجددة، وحتى تحقق عمان رؤيتها، وتسعى لتنفيذها بأيدي عمانية فهي تركز على تخريج جيل واعد يمتلك من المهارات المعرفية والابتكارية والإصرار والعزيمة ما يكفي لحمل مسؤولية تطوير وطنه.
لذلك رسمت النّهضة العمانية تحت قيادة السلطان الراحل قابوس بن سعيد (طيّب الله ثراه) التنمية الشاملة، القائمة على تعزيز الرأس المال البشري من أجل تحقيق الرفاه والحماية الاجتماعية للمواطن العماني؛ فوفرت سبل التعليم والعمل وتنمية مهاراته لتحقيق تلك التنمية بما يتناسب وتطورات الثورة الصناعية الرابعة ومتطلبات كل جيل، وقد ذكر السلطان الراحل في خطابه: إن التنمية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي من أجل بناء الإنسان الذي هو أداتها وصانعها، ومن ثم ينبغي ألا تتوقف عند مفهوم تحقيق ثروة مادية، وبناء اقتصاد متنوع، بل عليها أن تتعدى ذلك إلى تكوين المواطن القادر على الإسهام بجدارة ووعي في مسيرة النماء والبناء الشامل؛ وذلك من خلال تطوير قدراته الفنية والمهنية، وتحفيز طاقاته الإبداعية والعلمية، وصقل مهاراته المتنوعة، وتوجيه كل ذلك نحو خدمة الوطن، وسعادة المواطنين (الخطاب السامي،1995). وقد أبدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق (حفظه الله ورعاه) في خطابه اهتمامًا بتعزيز قدرات الشباب في مجالات الابتكار وريادة الأعمال؛ للمساهمة بفاعلية في تحقيق منظومة الاقتصاد الوطني، إذ ذكر في خطابه: أبناء عمان الأعزاء، إننا ندرك أهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وقطاع ريادة الأعمال لا سيما المشاريع التي تقوم على الابتكار والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة وتدريب الشباب، وتمكينهم للاستفادة من الفرص التي يُتيحها هذا القطاع الحيوي؛ ليكون لبنة أساسية في منظومة الاقتصاد الوطني، فإن حكومتنا سوف تعمل على متابعة التقدم في هذه الجوانب أولاً بأول (الخطاب السامي، 23 فبراير 2020).
وأرسى النظام الأساسي للدولة، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم)6/2021) قواعد مهمة، تتعلق بالبحث العلمي والابتكار، وردت ضمن المبادئ الثقافية في المادة (16)؛ إذ نصت على أن (التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية العمانية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب، وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح والتآلف)؛ فجمع بين التعليم والابتكار، وأهمية تأصيل قيم المواطنة والثقافة العمانية فيهما، وفي نص آخر في المادة نفسها (تكفل الدولة حرية البحث العلمي، والعمل على تشجيع مؤسساته، ورعاية الباحثين، والمبتكرين، كما تكفل سبل المساهمة الفعالة للقطاعين الخاص والأهلي في نهضة البحث العلمي)؛ فيشجع جلالته على الاهتمام بمجالات الابتكار والبحث العلمي، ويؤكد على أهمية دعم الباحثين والمبتكرين من قبل المؤسسات العامة والخاصة والأهلية للنهوض باقتصاد المعرفة، والاستفادة من الخبرات والأفكار الوطنية، وتعزيز مهارات الابتكار والبحث العلمي في مختلف المجالات والفنون والصناعات الإبداعية، وأكد ذلك في فقرة أخرى من المادة نفسها نصها (تكفل الدولة حرية الإبداع الفكري، ورعاية المبدعين، وتشجع على النهوض بالفنون والآداب).
وفي ضوء بناء قيمة مضافة للاقتصاد المعرفي والابتكار يكون له وزنه في الاقتصاد الوطني، وفي تعزيز موقع السلطنة على خريطة العالم الاقتصادية وتقوية تنافسيتها، تم التركيز على تحسين بيئة الابتكار موحدة من خلال وضع السياسات والتشريعات والإستراتيجيات الوطنية، وتأسيس بنية رقمية رصينة للتحول للحكومة الرقمية الذكية، وتعزيز البنية اللوجستية، وتأسيس الجامعات والمختبرات والمراكز البحثية، وريادة القطاع الخاص وتمكينه، وحماية حقوق الملكية الفكرية، فضلا عن توجه السلطنة لمسايرة المتطلبات الوطنية والعالمية من خلال مواءمة محاور رؤية عمان 2040، والخطط الخمسية بتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، ومنها تحقيق الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة عبر تأسيس منظومة ابتكار وطنية متكاملة من حيث تطوير مجالات البحث العلمي، ونقل التكنولوجيا، والتصنيع، والإنتاج، والجاهزية الرقمية والمعلوماتية، وتعزيز التنافسية الإقليمية والدولية.
ومن منظور رؤية عمان 2040 فإن نجاح الاقتصاد الوطني يعتمد على قدرة الاقتصاد على التعامل مع المعرفة لتطوير الأنشطة والمنتجات والبرامج الاقتصادية؛ وبالتالي المساهمة في تنوّع مصادر الدخل. لذلك كان الاهتمام بقطاع التعليم؛ لأنه يؤدي دورًا مهمًا في اقتصاد المعرفة من خلال ما ينتجه من موارد بشرية ماهرة ومؤهلة، يمكنها التعامل مع التطورات الحديثة في المجالات التقنية وغيرها؛ فكان من أهم أهداف منظومة التعليم والتدريب المهني والتعليم التقني في السلطنة إعداد مخرجات مهنية ذات جودة عالية، ملبية الاحتياجات النوعية والكمية لسوق العمل، وقادرة على أداء المهارات المهنية في ظل التقدم التكنولوجي، والعمل على غرس المفاهيم التنافسية وريادة الأعمال، وسعت الرؤية كذلك في أولى أولوياتها الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي والابتكار، وتعزيز قدرات الموارد البشرية ؛كونها الوعاء الذي يضم حصيلة من الخبرات والمعارف والمهارات والتقنيات الحديثة التي تقود لبناء اقتصاد المعرفة، وسعيًّا للوصول بالسلطنة في مؤشر الابتكار العالمي من بين أفضل 20 دولة بحلول عام 2040، لذلك أعدت السلطنة الإستراتيجية الوطنية للابتكار، وإستراتيجية البحث العلمي والتطوير لتمكين الموارد البشرية العلمية والفكرية على تلبية احتياجاتها الحالية والمستقبلية، وتهدف إلى أن تكون السلطنة محورا إقليميا للإبداع، ورائدة في ابتكار الأفكار، وتوفير السلع والخدمات الجديدة، وتأسيس منظومة إبداعية، تحقق مرتكزات رؤية عمان2040، ومن هذا المنطلق ركزت مؤسسات التعليم العالي إلى بناء نظام تعليمي، قائم على الابتكار والمعرفة من خلال برامجها المختلفة، وتوسيع نطاق الدراسات العليا والبحوث، وجمع الخبرات الوطنية في الجامعات والمؤتمرات وزيادة الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات، والاتصال وريادة الأعمال، وكلها أمور من شأنها تعزيز اقتصاد المعرفة؛ وحتى تتحقق تلك الرؤى بالشكل الملائم يلزمها إيجاد البيئة المناسبة والقادرة على تحويل الأبحاث العلمية والابتكارات من الورق إلى أرض الواقع، وبما أنّ السلطنة حققت مراكز متقدمة على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي في تلك المجالات؛ فمن الأجدى الاستفادة من هذه الأبحاث والابتكارات في القطاع الخاص أو الحكومي من خلال تبني خارطة طريق لتنمية الثقافة الابتكارية المستدامة، بالإضافة إلى أهمية تفعيل منصة الابتكار لتوحيد جميع جهود المؤسسات العامة والخاصة والأهلية في مجال الابتكار واقتصاد المعرفة، واستثمار مشاركة الشباب في تأسيسها ووضع قواعدها، وصناعة خدمات تقنية مرنة من شأنها تسهيل إجراءات المبتكرين والباحثين ومتطلباتهم ومدعومة ماليًّا ومعنويًّا؛ فتكون هذه المنصة قاعدة أساسة لمجال الابتكار والبحث العلمي، تقود إلى مجتمع معرفي وقدرات وطنية منافسة، وتعزيز تفاعل قطاع الأعمال، وقطاع الشباب، وزيادة بناء الشراكة، وتكامل الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع، بالإضافة إلى أهمية استقطاب ذوي الأفكار والموهوبين، وتسهيل الخدمات لهم في المنصة لتحويل ابتكاراتهم إلى مشاريع ذات قيمة اقتصادية، والسعي لتوفير الخدمات بين المناطق والمحافظات في السلطنة، والعمل على تبني برامج عملية وعلمية لتدريب الموارد البشرية وتطويرها، الموارد البشرية القائمة على قيادة الابتكار والبحث العلمي في السلطنة، وإشراك القطاع الخاص للتمويل والدعم.
من هذا نجد أن اقتصاد المعرفة نظام متكامل للإنتاج والاستهلاك، أساسه رأس المال الفكري، ويعد كذلك من الأصول غير الملموسة في الشركات والمؤسسات الحكومية ومن أشكال تطبيقاته في تلك المؤسسات منها تحويل الأعمال (إعادة هندسة العملية الإدارية – إدارة الجودة الشاملة – إدارة التغيير-الثقافة) وإدارة المعلومات (رأس المال الفكري والموجودات الفكرية)، والثقافة التنظيمية. ومن من خلال تلك البرامج والتطبيقات تتمكن المؤسسة من تدوير عجلة الاقتصاد، واستثمار الموارد البشرية والخبرات وتكنولوجيا المعلومات للتطوير والابتكار في الأدوات والآليات المستخدمة لأداء الأعمال، وتسهيل المهام من خلال اختصار الوقت وتوفير الموارد والجهد؛ وبالتالي تسريع الإنتاج وزيادته، ويرتبط تطور المؤسسات بشكل عام باستثمار رأس المال البشري، وإدارة المعرفة من خلال تدريب الموارد البشرية لديها وتأهيلها، واستثمار خبراتهم وأفكارهم للمساهمة بشكل فاعل في التخطيط الابتكاري، وإنتاج أفكار وآليات عمل جديدة ومبتكرة، تواكب متطلبات وتحديات القرن الحادي والعشرين.
وبالنسبة لموقع السلطنة عالميًّا في مؤشرات الابتكار؛ فقد تقدمت السلطنة (8) مراتب في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021؛ لتصبح في المرتبة (76) عالميا، وأوضح المؤشر تقدم السلطنة (19) مرتبة في مخرجات الابتكار ومرتبة واحدة (1) في مدخلاته، ويعزى هذا الارتفاع نتيجة تكامل الأدوار بين الجهات الفاعلة في المنظومة الوطنية للابتكار؛ مما ساهم في تقدم أداء السلطنة في هذا المؤشر.
وقد حققت السلطنة مراتب متقدمة عالميا في عدد من المؤشرات الفرعية منها: الأول عالميا في مؤشر نسبة خريجي العلوم والهندسة من إجمالي الخريجين، والعاشر عالميا في مؤشر التعليم العالي، والمرتبة (13) عالميا في مؤشر الإنفاق الحكومي على طلبة التعليم المدرسي، وفي مجال الاقتصاد والاستثمار حازت السلطنة المرتبة (18) عالميا في مؤشر تدفق الرأسمال الأجنبي إلى السلطنة، بينما كانت مرتبتها (23) عالميا في مؤشر إنتاج التطبيقات الرقمية، والمرتبة (24) عالميا في مؤشر الخدمات الحكومية الإلكترونية؛ ذلك حسب ما أصدرته المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو) في تقرير مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021، والذي يعد معيارًا عالميًا لقياس منظومة الابتكار الوطنية في 131 دولة من ضمنها السلطنة-وهذه المؤشرات ترتبط بكيفية توظيف السياسات والإجراءات والقوانين لتعزيز الاقتصاد الوطني. وكشفت نتائج التقرير الدولي لمؤشر الابتكار أن السلطنة حققت مراتب متأخرة في عدد من المؤشرات التي يحتاج التركيز عليها في المرحلة المقبلة منها: مؤشر مخرجات المعرفة والتكنولوجيا، ومؤشر استيعاب المعرفة، ومؤشر الإنفاق على البحث والتطوير، ومؤشر سهولة الحصول على الائتمان، ومؤشر التصاميم الصناعية. ولتعزيز تلك المؤشرات الوطنية في الابتكار واقتصاد المعرفة يتطلب إيجاد بنية تحتية متكاملة، وأطر قانونية تشجع على الابتكار والبحث العلمي، وتوفير المناخ الملائم لتطبيقها على أرض الواقع، والتركيز على تعزيز الشراكة بين مؤسسات التعليم العالي لصناعة الأفكار، وتحويل المعلومات والمعارف إلى أفكار قابلة للتطوير، ونقلها من النظرية إلى التطبيق، مع عدم الإغفال على تطوير البحوث الإنسانية والعلوم الاجتماعية لخدمة المجتمع العماني، بالإضافة إلى أهمية زيادة المخصصات المالية المباشرة أكثر من 1٪ من الناتج المحلي المخصصة للبحث والابتكار، بالإضافة إلى توجيه القطاع الخاص لتمويل مجالات اقتصاد المعرفة المختلفة.