النقابات العمالية، وصناعة التوازنات في بيئة العمل
الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية، مجلس الدولة
إنّ المرسوم السلطاني رقم 112/ 2006 بتعديل بعض أحكام قانون العمل في المواد (109) و(110) و(110) مكررا ، والذي نص في مادته الأولى على (تشكل النقابات العمالية اتحادا عاما لعمال سلطنة عُمان، يمثلهم في الاجتماعات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، ويجوز للنقابات العمالية تشكيل اتحادات عمالية فيما بينها)، كما نص في مادته الثانية على (تتمتع النقابات العمالية والاتحادات العمالية والاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان بالشخصية الاعتبارية المستقلة؛ وذلك من تاريخ التسجيل لدى الوزارة، ولها الحق في ممارسة نشاطها بحرية كاملة بدون تدخل في شؤونها أو التأثير عليها)، وجاء في المادة الثالثة منه (لا يجوز تطبيق عقوبة الفصل أو أية عقوبة أخرى على ممثلي العمال في النقابات العمالية أو الاتحادات العمالية أو الاتحاد العام لعمال سلطنة عمان؛ بسبب ممارستهم لنشاطهم النقابي العمالي وفقا لهذا القانون والقرارات الوزارية المنفذة لها)، شكل انطلاقة حقيقية نحو تأسيس البنية التنظيمية والهيكلية والمؤسسية والتشريعية للنقابات العمالية، وتأسيس الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، بما يعكس مرحلة جديدة في مسيرة البناء والتطوير في بيئة العمل بمؤسسات العمل والإنتاج، وحالة استثنائية نوعية تبرز مستوى الرقي المؤسسي في التعامل مع الأفكار التطويرية الحاصلة في مؤسسات العمل بالقطاع الخاص والشركات، وتؤسس لمسار التكامل في بيئة العمل بين عوامل الإنتاج الثلاثة، العمال ويمثلهم الاتحاد العام لعمال سلطنة عمال وعبر النقابات العمالية، والحكومة ممثلة في وزارة العمل ودورها في تعزيز تشريعات العمل ومراقبة تطبيق قانون العمل، وإلزام الشركات ومؤسسات العمل نحو تحقيق واجباتها والوفاء بتعهداتها، وتوفير الأدوات الرقابية التي تساهم في تقييم ممارسات العمل الحاصلة؛ وأصحاب العمل ممثلا في غرفة تجارة وصناعة عُمان، والتي تقع عليها مسؤولية بناء جسور التواصل مع أرباب العمل والشركات والمؤسسات، ذلك أن هذه الصورة من التكامل المؤسسي هو ما يحتاجه القطاع الخاص اليوم، والتي يجب أن تقرأ في كفاءة هذه البنية المؤسسية والتشريعية فرص أكبر لبناء الثقة، وتعزيز جسور التواصل، وخلق فرص الاحتواء؛ للحفاظ على معادلة التوازن في الحقوق والواجبات، سواء حق العامل في الحصول على الأجر والمكافأة والإجازة والتأمينات الصحية أو الأمن الوظيفي والسلامة في بيئة العمل، أو حق مؤسسات العمل في وجود عامل منتج يؤدي عمله بمهنية، ويضمن التزامه بجميع الإجراءات القانونية المنظمة لعمل المؤسسة، والمحافظة على أعلى درجات المهنية والإنتاجية والتطوير المؤسسي.
إنّ النقابات العمالية بذلك ليست مجرد تعبير عن اتحاد مجموعة من العمال في المنشأة لتشكيل نقابة عمالية لحل النزاعات، والتعامل مع التحديات، وتيسير حصول العمّال على حقوقهم المشروعة، بل إنّ ما تحمله من دلالات، وتستشرفه من نجاحات، وتؤصله من قيم، وتصنعه من قدوات، وتنتجه من قدرات، محطة مهمة في العمل المؤسسي الكفء الذي يتكيف مع طبيعة التغيير الحاصل في بيئة العمل، ويستجيب للمتغيرات والظروف التي تعمل فيها مؤسسات الإنتاج على أساس أنّ العامل – الرأسمال البشري الاجتماعي- هو الأساس في حركة التطوير والإنجاز التي تجري داخل المؤسسات، لذلك كان من الأهمية البحث عن كل ما يؤدي إلى أمنه الوظيفي، واستقراره المهني، ورفع درجة الدافعية لديه، وتعزيز كفاءته واستيعابه للقوانين والأنظمة، وإدراكه لما له من حقوق، وما عليه من واجبات، وما إذا كانت مطالباته بهذه الحقوق مشروعة وعملية، بما ينعكس إيجابا على إنتاجية بيئة العمل ، ويمثّل في الوقت نفسه مسار جذب وتوطين للكفاءات العمانية لتحافظ على استمرارية أدائها بجودة عالية؛ ذلك أن الغاية الكبرى من هذا الاتحاد هو صناعة التوازنات في بيئة العمل عبر تحقيق أهداف المؤسسة بكفاءة عالية، وتعميق دور الرأسمال البشري الاجتماعي، المؤسس للإنجاز، والمحقق لهذه الطموحات في بيئة عمل مستقرة.
وعليه؛ فإن تحقيق النقابات العمالية لدورها الحيوي مرهون بجدية تعاطي جهات الاختصاص مع ما ترفعه النقابات العمالية من مطالبات وشكاوى أو مقترحات العمال التطويرية بالمؤسسة؛ لتشكل مع الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان نقطة التقاء مشتركة لشراكة مستديمة، تتلاشى فيها التوجهات الفردية، وتغيب الأنانيات الشخصية، وتزول الأفكار الأحادية، ومحطة لتوليد البدائل، وتجميع الأفكار، وتصحيح النوايا، وفرصة لتعزيز قيمة العمل الجمعي، وترسيخ الإنسانية في بيئة العمل والإنتاج، وتأصيل مفهوم أعمق لتطبيق روح القانون واقعا عمليا بدون تلكؤ أو محاصصة؛ هذا الأمر من شأنه أن يصنع في العامل أخلاقيات العمل، وقوة الشخصية العمالية الراقية في مطالبها المشروعة، وغاياتها الوطنية السامية، وعندها تصبح النقابات العمالية صوت العامل المتجدد في صناعة التغيير؛ إذ التفكير العمالي ينحى إلى التكامل، والعمل يجري في إطار روح الفريق الواحد، ودور اتحاد العمال في خلق نهضة المبادئ وتقوية الالتزامات بين أطراف الإنتاج في رصد التحديات التي يواجهها العمال؛ آخذا بالاعتبارات التي تطرحها مؤسسات العمل قيد الاهتمام والدراسة؛ وبالتالي فإن طبيعة هذا الدور يعبر عن سلوك مؤسسي رقابي يصنع التغيير، ويؤسس للكفاءة، ويبني الإنتاجية، فلا خوف على المؤسسة من نشاط هذه النقابات العمالية، كما لا خشية في ظلال هذه النقابات على حقوق المؤسسة، وهي في كل الأحوال منصة عمالية تواصلية حوارية تكاملية، يلجأ إليها العامل عندما يجد بعض القصور أو فجوة التباين حاضرة أو تطبيق اللوائح يشوبه بعض الغموض أو التراجع أو عدم الجدية، أو تكرار الممارسات غير المهنية التي قد تضر ببيئة العمل واستقرار العمال، خاصة فيما يتعلق بالإجازات السنوية والترقيات والمكافآت والحقوق، أو التزام المؤسسات بمعايير الأمن والسلامة في العمل، أو كذلك الإجراءات التنظيمية المرتبطة بالقرارات والاستثناءات والتنقلات والأجور أو عقود العمل المؤقتة والتسريح، وغيرها من الجوانب التي باتت تشكل اليوم هاجس العمال في مؤسسات العمل بالقطاع الخاص؛ إذ ورد في ملخص تقرير الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان حول أهم البلاغات والمخالفات العمالية التي رصدها الاتحاد في العامين 2020 و2021 ضمن جهوده بالمتابعة والنظر في قرارات القوى العاملة الوطنية المنهية خدماتهم من العمل، والتي تمثلت في إجبار العمال العمانيين على تغيير عقود عملهم من عقود عمل غير محددة المدة إلى عقود عمل محددة المدة، وعدم التزام الشركات بأحكام لائحة السلامة والصحة المهنية، ونقل القوى العاملة الوطنية إلى مواقع عمل مختلفة بخلاف الموقع المحدد بعقود العمل، وعدم التزام الشركات بتقديم المستندات اللازمة للعاملين للاستفادة من التسهيلات التي تقدمها المؤسسات المصرفية وشركات التمويل، والإنهاء الجماعي والفردي لخدمات القوى العاملة الوطنية، وعدم صرف الأجور أو التأخر في صرفها، وخفض الأجور دون تفاوض أو اتفاق مع القوى العاملة الوطنية، وإجبار العمال على الخروج في إجازات سنوية بدون أجر، وإنهاء خدمات القوى العاملة الوطنية؛ بسبب تصفية الشركات أو إفلاسها أو إغلاقها نهائيا، أو عند انتهاء المشاريع المسندة لتلك الشركات.
من هنا؛ فإن ما يحمله المرسوم السلطاني سالف الذكر من دلالات واضحة حول النقابات العمالية، ودور الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، يؤسس لمرحلة متقدمة من الوعي والاستيعاب لمعطيات هذا الدور ، والصورة النموذجية التي تقدمها النقابات العمالية والاتحاد العام في سبيل خلق مفهوم أعمق لجودة بيئة العمل في مؤسسات العمل والإنتاج؛ الأمر الذي من شأنه أن يقلل مما يثار من مخاوف حول جهود هذه النقابات والصورة النموذجية التي تقدمها في الدفاع عن حقوق العمال؛ وبالتالي لا تكون ردة فعل مؤسسات العمل سلبية عندما تمتلك النقابة العمالية الخبرة والريادة واللباقة في طرح حقوق العمال ومطالباتهم، معبرة عن صوت العامل، حاملة معها همومه وطموحاته وأفكاره وآماله ورغباته واحتياجاته، بنهج يعكس الحكمة وسمو الفكرة، ومصداقية الكلمة، وعمق الشعور، وصدق التوجه ورغبة العطاء، والإيمان بالمبادئ وأخلاقيات العمل في الانتقال بالمؤسسة إلى أفضل المستويات، والفخر بها في مختلف المواقع والمواقف.
أخيرا، فإن حوكمة الأداء المؤسسي كأحد أولويات رؤية عُمان 2040 يصنع من دور الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان في ظل مؤشرات الارتفاع في أعداد النقابات العمالية، محور التغيير القادم في هيكلة منظومة العمل؛ لذلك يأتي التأكيد على أهمية تعزيزه بالصلاحيات والممكنات الضبطية والرقابية التي تساعده في القيام بمسؤولياته، والتي نعتقد بأنها يجب أن تتجه إلى أمرين؛ أولهما أهمية تعزيز الحصانة للقائمين على النقابات العمالية من أي ملاحقات أو قرارات تعسفية تجري ضدهم لمجرد تعبيرهم عن حقوق العامل، وثانيهما أهمية إشراك الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان في صياغة قانون العمل الجديد؛ لكونه أكثر الجهات إدراكا لحقوق العامل وتناولا لقضاياه وطموحاته، ونوجه كلمة لأطراف الإنتاج الأخرى هي أن واقع بيئة العمل والتحديات التي يواجهها العامل العماني يضعها أمام مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية في المساهمة في تحقيق جهود النقابات العمالية والاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، وتبقى النقابات العمالية صوت العامل الكادح المخلص الغيور على عُمان، والذي لا نملك إلا أن نقف له تعظيما وإجلالا وتكريما على ما قدم من عطاء، وما بذل من تضحية، ستظل شاهدة له في كل قطرة عرق جبين وكد يمين.