اتحاد صاعد، ومستقبل واعد
محمد الخالدي، مستشار الرئيس للشؤون الإستراتيجية، الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان
لم يكن الاتحاد وليد صدفة، بل نتاج أعوام من نضج مجتمعي فكري، وإرادة حكومية جادة؛ فقد التحق الشباب العماني في القطاع الخاص منذ عقود، مشمرين عن سواعدهم، بعد ما كان عدد العمانيين العاملين في القطاع الخاص زهاء 55 ألفًا عام 2000. تنامت هذه الأعداد لتصل إلى 131 ألف عماني بعد سبعة أعوام، ويستمر جذب القطاع الخاص للكوادر الوطنية ليتضاعف العدد بالغًا 283 ألفًا بنهاية عام 2022.
ولقد زخر القطاع الخاص بكفاءات وطاقات عمانية فذة وواعدة، أدت إلى تسارع النمو الإنتاجي الوطني، وساهمت بشكل فعّال في رفع الناتج الوطني في مختلف القطاعات، بعد أن كان إجمالي الناتج المحلي عام 2022 يقدر بحوالي 7 مليار ريال عماني، أصبح اليوم يقدر بـ 33 مليار ريال عماني، وقد سارع التشريع في تنظيم سوق العمل لمواكبة هذا التحول المستجد والنمو المطرد وتوافد الأيدي العاملة إلى قطاع الخاص؛ القطاع الذي تنعقد عليه الآمال بأن يكون الرافد الحقيقي للتشغيل للأجيال القادمة.
وما هي إلا أعوام، ويصبح الحلم واقعا ملموسا؛ فيصبح هنالك تمثيل عمالي منظم تحت مظلة جهة تملك الصلاحيات والمسؤوليات وفق المراسيم السلطانية؛ فكان تاريخ 8 يوليو عام 2006 شعلة الأمل التي أضاءت الطريق للعاملين بالقطاع الخاص؛ فصدر المرسوم السلطاني الذي أعطى حرية التشكيل النقابي العمالي، ونص على إجازة إنشاء الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان.
وبعد أربع أعوام من صدور ذلك المرسوم والعمل الدؤوب عُقد المؤتمر التأسيسي في يوم لا يمكن أن يُنسى في تاريخ العمل النقابي، وهو الخامس عشر من فبراير عام 2010، وبمشاركة (88) ممثلًا عن النقابات العمالية بالسلطنة، بلغ عددها (45) نقابة عمالية، سجلت لعضوية المؤتمر آنذاك؛ وبدأ الاتحاد فعلا العمل الجاد، والمشاركة الفاعلة في أغلب التحديات التي واجهها القطاع الخاص في تلك المرحلة المفصلية؛ فكان للاتحاد دور بارز مهم في حالة الاستقرار التي عاشها القطاع الخاص والمجتمع العماني في تلك المرحلة التي عصفت ظروفها بالكثير من أقطار العالم، على الرغم من كونه في مرحلة التأسيس؛ فقد أثبت جدارته في المساهمة في حلحلة العديد من الإشكالات؛ وما اتفاقية العمل الجماعي، الموقعة في 18 مارس 2011 إحدى الأمثلة التي ستظل شاهدة مدى الأيام على كيفية إدارة العماني للأزمات والاضطرابات بالحوار البناء والتفاهمات المنسجمة مع الهوية العمانية، والتي تأخذ بعين الاعتبار مصلحة كل الأطراف، يوم حُمل أقطاب الإنتاج الثلاثة على مِروحية إلى المناطق المتوترة في حقول النفط؛ لتهدئة الوضع المتأزم؛ نتيجة مطالبات مشروعة تلامس القطاع الخاص وعماله؛ فلم تواجه تلك المطالب بعدم الاهتمام، وإنما بالحوار والاحتواء وتقدير العطاء، وما كان ذلك أن يتأتى في غياب أي طرف من الأطراف؛ فالحكمة السلطانية التي أذنت بتأسيس العمل النقابي قبل أربع أعوام كانت هي السبب الفعّال في وقف توترات كان من المحتمل أن تتصاعد، وما هي إلا أيام، ويبرز دور الاتحاد في كثير من المواقف والمحافل التي كانت تتطلب وجود كوادر قادرة على الاحتواء وانتهاج أساليب مناسبة للتواصل والتفاهم بهدف خلق حالة من الانسجام في القطاع الخاص.
إن المرحلة الأولى من وجود القطب الجديد في سوق العمل لم تكن بالأمر الهين؛ فقبول الطرف الجديد يحتاج إلى وقت لدى الأطراف الأخرى التي لم تعتد على هذا النوع من النمط المنهجي في الحوار والشراكة لصناعة القرار؛ فقد سادت سابقًا صورة نمطية، كانت نتاجًا طبيعيًّا لوضعية معينة وهي الندية والمناكفة الوجودية لأرباب العمل وممثلي العمال؛ فلعنصر الوقت أهمية في قبول مبدأ التفاوض والمشاورة بين رب العمل والعمال، ولكن مع مرور السنوات باتت هذه الصورة النمطية طي النسيان؛ فتمخضت كل تلك المناوشات والمشاحنات إلى ولادة فكر جديد، يعطي كل الأطراف صلاحياته، ويحترم مسؤولياته بشكل متساوٍ.
بعد أربع أعوام من اليوم التأسيسي الأول، وفي السادس عشر من فبراير لعام 2014 عُقد المؤتمر الأول للاتحاد العام، اُعتمد خلاله النظام الأساسي للاتحاد العام لتبدأ مرحلة تغيير نوعي في عمل الاتحاد العام، أبرزت اسمه على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية؛ فكان اسم الاتحاد العام يتردد صداه في كل من منظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية، وكان حضوره في شتى المحافل العمالية دائما ومشرفا، وتطورت منظومة الحركة النقابية في السلطنة بتطور الأساليب والمنهجيات والكوادر البشرية الناتجة عن منظومة تدريبية فعالة؛ فقد عُني الاتحاد العام بالتدريب عناية فائقة لأهميته الملحة في مرحلة مهمة من عمر العمل النقابي بالسلطنة؛ فكانت البرامج التدريبة يتجاوز عددها العشرات، تُقام على مدار العام، وتشمل جميع النقابيين في كل القطاعات؛ وقد تضاعف عدد النقابات العمالية، بالموازنة مع المرحلة التأسيسية، كما شرع الاتحاد العام خلال هذه المرحلة في تشكيل اتحادات قطاعية، كانت البداية بإنشاء الاتحاد العمالي لقطاع النفط والغاز عام 2013، وهو انتقال تنظيمي حتمي مهم في ظل تنامي العمل النقابي في السلطنة؛ فتطورت أدوات الاتحاد العام في كافة الاختصاصات المعني بها، وقد استوجب هذا الاهتمام بالأداة الإعلامية التي ساهمت بشكل مباشر في زيادة الكتلة النقابية، ونشر الوعي النقابي في المجتمع العماني؛ فتسارع الاهتمام بجميع الأدوات الإعلامية، وكان إطلاق مجلة (سواعد نقابية) بمثابة خلاصة الجهد الإعلامي المميز للاتحاد العام؛ فأصبحت المنبر الإعلامي الجديد الذي يوظّف جميع الطاقات الإعلامية داخل الاتحاد وخارجه؛ فكانت تستقطب كُتّابًا من الإعلام المحلي والخارجي لإثراء مواضيع المجلة، ولتكون مرجعا قيما لصناع القرار، وفي خضم كل تلك الأحداث والمستجدات، وُقعت اتفاقيات العمل اللائقة المعتمدة من كافة أطراف الإنتاج الثلاثة، تحت إشراف منظمة العمل الدولية، تسير بخطا واثقة نحو عمل لائق في القطاع الخاص؛ فتوسعت المسارات التي يعمل ضمنها الاتحاد العام؛ فالكثير من الإشكاليات كانت تتطلب وجود اتحاد عمالي يشارك في حلحلة الخلاف وتقريب وجهات النظر في إطار تنظيمي واضح، وقد كان الاتحاد العام سعيدًا وفخورًا بالمكرمة السامية من السلطان الراحل، طيب الله ثراه، لإنشاء المبنى الاستثماري والمقر الدائم للاتحاد العام، وشِهد يوم العمال عام 2016 افتتاح المبنى الخاص بالاتحاد بحضور رسمي بارز.
إن كل هذه الدلالات تشير إلى أهمية الاتحاد العام وإيمان الأطراف الأخرى بدوره؛ فبالنسبة لعمر المنظمات العمالية يعد ما قام به الاتحاد العام لعمال سلطنة عمان إنجازًا يسابق الزمن، يفوق ما قدمته منظمات تجاوز عمرها أكثر من مئة عام، وما كان هذا أن يتأتى لولا الجهود المبذولة من مجالس إدارة الاتحاد العام المتعاقبة، وجهازه التنفيذي، والدعم الحكومي، فضلا عن وعي أرباب العمل ممثلا بغرفة تجارة وصناعة عُمان.
لم يكن غياب التنظيم الإستراتيجي معرقلا لعمل الاتحاد العام أو للقيام بمسوؤليته في بدايات نشأته، ولكن مجالس إدارة الاتحاد المتعاقبة تطمح إلى أن يكون الاتحاد العام في مصاف المنظمات العمالية العالمية التي تعمل وفق رؤى وخطط تنظيمية عالية الدقة؛ وذلك بتطوير الأداء المؤسسي لتحقيق طموحات العاملين بالقطاع الخاص؛ لذلك ومنذ زمن ليس بقصير شرع الاتحاد العام في التفكير بالتنظيم الإستراتيجي، وتوسيع عملياته ومنطلقاته لتكون وفق أهداف إستراتيجية دقيقة واضحة، وقبل العقد الحالي بأعوام معدودة بدأت عمليات التخطيط الإستراتيجي وبناء المنظومة الإستراتيجية، وما هي أعوام قليلة حتى وصل الاتحاد إلى صورة أكثر وضوحا؛ فأطلق الاتحاد العام مشروع إعداد مؤشرات قياس الأداء الإستراتيجي على أربع مراحل مختلفة؛ فبعد عملية بناء الإطار الإستراتيجي، انتقل إلى مرحلة في غاية الأهمية، وهي تُعنى بتقييم أدائه على كافة الأصعدة، بصورة حيادية، وبواسطة جهة مختصة في التخطيط الإستراتيجي؛ فكانت الرسالة التي تضمنتها الإستراتيجية هي ترسيخ مفهوم العمل النقابي بالصورة الأنضج، والعمل مع الشركاء الاجتماعيين من أجل تحقيق بيئة عمل عادلة ومثالية، تساهم بشكل مباشر في رفع معدلات الإنتاج؛ مما يساهم في نمو اجتماعي واقتصادي في قالب من الشفافية والوضوح في الأعمال، بعيدًا عن الصورة النمطية التي ترى تصارع القوى والاستحواذ على سلطة صناعة القرار، كما كانت الرؤية التي تتطلع إلى خلق صوت اجتماعي يستند عليه منتسبو المنظومة النقابية في شتى الظروف من خلال حَراك نقابي منظم ومتنامٍ؛ فالمنتسبون هم محور بناء هذه الإستراتيجية وهم هدفها الأسمى،
وبالنظر إلى الوضع المالي والعمليات الداخلية في الاتحاد يتضح لنا أن جميعها يتجه إلى فئة المستفيدين الأهم في هذه المنظومة، وكل هذه الأهداف والغايات بلا شك محل قياس وتقييم وفقًا لمعايير علمية تساعد الاتحاد العام في فهم طبيعة النمو العمالي ومساره، ومن منطلق القيم التي تبناها الاتحاد فهو يتطلع إلى تحقيق الاستقلالية والاستدامة المالية، والالتزام بمعايير الديموقراطية، وتحقيق أعلى معدلات المساواة بين العملاء والشركاء، والسعي الدؤوب إلى جودة العمليات ونزاهتها، واستشراف المستقبل من خلال وسائل الإبداع المتاحة.
ليس من السهل اختزال المكاسب والنجاحات التي حققها الاتحاد العام في أسطر معدودة؛ فالباحث في أرشيف الاتحاد على مدى الأعوام الماضية يجد الكثير مما يسعد الشريحة العمالية، ناهيك عن الظاهر الملموس من القضايا اليومية والأنشطة والمسؤوليات الاعتيادية، والحقيقة أن النجاح الأهم هو تعزيز وجود هذا الكِيان وقبوله في بيئة لم تعتد على هذا النوع من الكيانات؛ ففي عمر يعد قياسيًّا بالنسبة إلى تاريخ تكوين المنظمات العمالية بهذا القدر والمستوى؛ فإن كل الاعتبارات تؤكد بأن الاتحاد العام حقق نجاحا نوعيا بارزا؛ فبعد ظهوره في المجتمع بشكل فاعل، وتعامله مع الأطراف الأخرى بمصالحها المتباينة، وقيامه بدوره المحوري المؤسس على الصلاحيات القانونية سببًا لقبوله والاعتراف بأهميته كركيزة أساسية في عملية الإنتاج من خلال مساهمته في خلق حالة من الاستقرار والأمان في سوق العمل؛ فليس هذا النوع من الانتقال الفكري باليسير في مرحلة لا تتجاوز عقدين من الزمن؛ ولا يمكننا إنكار جهود بقية أطراف الإنتاج في هذا القبول الفكري بعدما لمست أهمية دور الاتحاد العام على أرض الواقع.
إن المستقبل القادم يَعد بكيان عمالي ومنظومة نقابية ترعى مصالح منتسبيها وتدافع عن حقوقهم وتسعى جاهدة لتحسين حالتهم المادية والاجتماعية بناء على الأدوات المتاحة، وإن تحقيق تلك الغايات والأهداف المرسومة في إستراتيجية الاتحاد العام من شأنه إنجاح الرسالة الأسمى لمثل هذه الكيانات في المجتمعات المتحضرة؛ وللعمل النقابي مساهمة فاعلة في تشكل فكر حر نزيه، يغلّب المصلحة الوطنية على سائر المصالح الأخرى.