التسريح من العمل
يحتفي الإسلام احتفاءً كبيراً بالعمل والعامل ، ويقدر ما يبذله العامل من جهد ويعتبره سعياً مشكورًا عند الخالق والناس، لذا قال جلّ من قائل ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وطبعا هذا استفهام استنكاري جوابه لا يستوون، لا يستوون في الأثر المجتمعي ولا يستوون في الأجر والثواب عند الله، فالأمم لا تنهض إلا بالأيدي العاملة من أبنائها أو من الأيدي العاملة بشكل عام سواء أكانت مواطنة أو وافدة ، ومعيار تقدم الأمم تجسده مقولة :
ما تعرتْ أمةُ ما لبستْ من نسجها
لا، ولا ذلتْ إذا ما أكلتْ من أرضها
وقد لمسنا أهمية هذا المعنى في الأزمة الأخيرة عندما امتنع الاستيراد وشحتْ الخضروات، علماً بأن أرض عُمان خصبة غنية معطاءة، والفلاح العُماني ماهر ومتعود على العمل بيده، لكننا تركنا الزراعة وجرينا خلف راحة الوظيفة حتى لو قلَّ دخلها الشهري عن ما تمنحه الأرض الطيبة.
ولأهمية العمل اليدوي وضرورته قال رسولنا الكريم :
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها )
هل نتخيل الهول الشديد ليوم القيامة ومع هذا إذا كان في يد أي منكم فسيلة / أي غرس نبته فإن استطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليفعل، وهذه قمة الأهمية للعمل .
وهناك أحاديث نبوية كثيرة تحث على أهمية العمل ونبذ التكاسل والبطالة والاستجداء من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه .
وقال عليه الصلاة والسلام ( اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى) واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة، والعمل في الموروث الديني جهاد، فمن يعمل لإعالة أسرته أو إعالة نفسه وحفظها من إهدار ماء الوجه وحفظ النفس عن التسول فهو يجاهد في سبيل العيش الكريم، فقد سؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الكسب أطيب؟ قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور .
لقد شاعتْ في الآونة الأخيرة عبارة المسرحين عن العمل فما هو التسريح؟ وماهي أشكاله وماهي أسبابه؟ وما نتائجه السلبية على المجتمع وما نتائجه الإيجابية إن كانت له نتائج إيجابية ؟
التسريح : هو إنهاء عقد العمل لعامل ما أو لمجموعة من العاملين لأسباب عديدة أبرزها الأسباب الاقتصادية والمالية المستجدة التي تمر بالمنشأة، وعادة تكون أسباب يستحيل معها إتمام وتنفيذ عقد العمل إلى المدة المتفق عليها في العقد المبرم بين المؤسسة والعامل .
ولعل الوجه السلبي للتسريح هو الأمر الشائع والمعروف، إذ يعني التسريح بأن العامل فقد مصدر دخله دون تأمين مصدر آخر للرزق، الأمر الذي يشكل أضراراً اجتماعية واقتصادية ونفسية للعامل المسرح، ويضاعف من مشاكله، كما يؤدي إلى أضرار اجتماعية كانتشار ظاهرة التسول، وظاهرة السرقات، وظاهرة الامتناع عن الدفع والسداد نتيجة لعجزه المالي، وقد تنتشر الجريمة بأصنافها في المجتمع، علماً بأن القوانين الحديثة تضمن للعمال حقوقهم وتعويضات نهاية الخدمة .
أما إذا لم تلتزم المؤسسة بمراعاة حقوق العامل فإن النقابات العمالية ومؤسسات حقوق الإنسان تكفل له تلك الحقوق .
وإذا تساءلنا لماذا يسرح العامل من عمله وماهي المبررات للتسريح سنجد عدة مبررات يقدمها صاحب المؤسسة، وتتمثل الإجابة فيما يلي :
يتم تسريح العامل للأسباب التالية:
1- إنتاجيته المعدومة أو الضعيفة أو عدم رغبته الجادة بالتدريب أو استجابته الضعيفة من برامج التدريب، على الرغم من انتظام دوامه وعدم الانقطاع .
2- غياباته المتكررة أحياناً من دون عذر مقبول، وكثيراً ما يكون متعللاً بأعذار واهية.
3- تهجمه على زملائه أو رؤسائه بالعمل، سواء أكان هذا التهجم قوليا أو فعليا يدوياً.
4 – عدم تعاونه مع الزملاء واتسامه بالأنانية، وعدم التناسق في الأداء مع روح الفريق.
5 – عدم الأمانة متمثلاً في عدم الحرص على وسائل الإنتاج وأدوات العمل الموضوعة تحت تصرفه وعدم المحافظة عليها بحرص وعناية واستهلاكها في عمل المؤسسة وعمله الخاص لكسب ربح خاص له الأمر الذي يؤدي إلى استهلاك الأدوات وتعرضها للتلف السريع.
6 – عدم الأمانة في حفظ أسرار العمل والتعمد في نقل أسرار العمل للمنافسين طلبا للتكسب منهم .
7- رغبة الشركة بتقليل مصاريفها في فترات الأزمات التي تمر بها .
8 – انتهاء المشروع الذي وظّف من أجله، وهذا يحدث عادة ضمن الشروط في وثيقة العمل التي وقع عليها العامل والمكتوبة بلغة مفهومة للعامل .
والعنصران الأخيران رغبة الشركة بتقليل مصاريفها وانتهاء المشروع الذي وظّف من أجله يحدث غالباً بشكل ما يعرف بالتسريح الجماعي.
وتسريح العامل عند انتهاء المشروع الذي وظّف من أجله فيه هو أمر متعارف عليه ويتم بالتراضي بين الشركة وبين العمال لأنه أمر منصوص عليه في عقد العمل بين الطرفين وقد قبل به العامل قبل البدء في عمله، لذا لا يشكل الأمر أي تصادم أو مشاكل للشكوى في حقوق العمال أو نقابة العمال .
لكن العنصر السابع هو الذي يشكل المنازعات بين العامل ومؤسسته، فهو أمر طارئ لم تعمل له المؤسسة حساباً من قبل ولم يعمل له العامل أيضاً أي حساب بل تفاجأ به، وعادة لا يضمَّن هذا الأمر الطارئ في عقد العمل والشروط لأنه حدث مفاجئ للجميع، ولنضرب مثالاً بما حدث خلال هذا العام 2020 م فالعالم كله ضرب بخسائر اقتصادية فادحة أثر جائحة كورونا وما صاحبها من حظر العمل ، خوفا من انتشار العدوى وارتفاع معدل الوفيات، الأمر الذي جعل بعض الشركات تسرح عمالها تسريحاً جماعياً وبعضها الآخر أفلست وقفلت أبوابها، وأصبحت الأزمة عامة وخاصة على الشركات والأفراد.
إجمالاً فإن الأمان الوظيفي المطلق يؤدي إلى الترهل الوظيفي، وزيادة عدد العمال مقارنة بنقص الانتاج، لذا فمن واجب جهة العمل كيفما كانت، السعي لاستثمار طاقات كل عامل كي ينتج ويعطي أفضل ما لدية من طاقة ومهارة عملية، هذا مع التركيز على تشجيع العامل المنتج وزيادة الحوافز المالية والترقيات وحثه على الأخذ بيد زملائه من العمال ومن الجميل لو تم التركيز على العامل غير المنتج ووضعه تحت المراقبة المركزة ومحاولة التعرف على ظروفه المختلفة، وحلّها فهذا سيكون اكبر حافز له لتطور قدراته ومن الجيد لو يتم وضع العامل غير المنتج ليعمل تحت إشراف مباشر ممن حازوا التقدم والسبق في مجال عملهم . إذن التسريح ليس حلاً موفقا للعمال وعلى رئيس المؤسسة أن يفكر بنتائج هذا التسريح وانعكاساته السلبية على العامل المسرح أولاً، وانعكاساته السلبية الكبيرة على المجتمع، إن العمل شراكة بين مجموعة من الكوادر لو تضافرت جهودهم جميعا لحصد النجاح ونجحوا وإن أهمل أي عنصر منهم فشلوا جميعاً مهما كان دور هذا العامل بسيطاً، وعلى المسؤول مراقبة العمل جيدا وتخصيص مجالا للشكوى للاطلاع على معوقات الإنتاج أولاً بأول لتسيير دفة العمل للأحسن، كما يجب على كل مسؤول الالتقاء كل فترة وفترة غير متباعدة مع عماله لمراجعة ودراسة ما يعانون منه، وللتعرف عن قرب على الإيجابيات وتعزيزها ومنغصات العمل لإزالتها، وحلّ أية مشكله بشكل استباقي حتى لا تتراكم المشاكل ويجد صاحب العمل مؤسسته تنوء بأعباء غير قادر على حلها إلا بإعلان الإفلاس بعد التراكم وغرق المؤسسة .
إن المتابعة المستمرة للعمل تؤدي إلى سلامة المؤسسة واستمراريتها حتى لو ضحت المؤسسة مؤقتاً ببعض الأرباح، إن مشاكل التسريح المفاجئ تتمثل في انخفاض دخل العامل المسرح وعجزه عن تلبية ملتزماته الحياتية، خاصة إذا كان المسرح قد ارتبط بسلفيات بنكية بعيدة المدى، أو شراء سلعة بالأقساط كشراء سيارة أو ما يماثلها وهذه ديون واجبة السداد، وقد تعرض صاحبها للسجن في حالة العجز عن السداد، من هنا يتوجب على المؤسسة التي ترغب في تسريح العمال للضرورة التريث وإمهال الموظف بعض الوقت للبحث عن عمل آخر يكون مسانداً له في سداد التزاماته المالية .
وعلى البنوك أن تُقدر ما وصلت إليه الحالة العامة للاقتصاد في البلاد وتسهم بدورها بتخفيض المبلغ المستقطع شهرياً والتنازل عن الفوائد لمساعدة الفئات أو الأفراد الأكثر تضرراً من التسريح .
د. سعيدة بنت خاطر الفارسي