دور الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان في استدامة الحوار الاجتماعي

الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
تواجه منظومة العمل والتشغيل الوطنية اليوم الكثير من التحديات والمتغيرات، ساهمت في خلق فجوة كبيرة بين العاملين ومنظومة العمل، ولعل هاجس تسريح القوى العاملة العمانية والتوجه نحو أنماط العمل المتنوعة في محاولة للحد من ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل في ظل غياب القوة الاقتصادية والوظائف المستدامة التي تضمن استيعاب أعداد كبيرة من الباحثين أو المسرحين، وما يقابل ذلك من ارتفاع في أعداد القوى العاملة غير العمانية، لا سيّما في الوظائف العليا والوظائف الهندسية والفنية، ناهيك عن الوظائف الأساسية والخدمية، أوجد حالة من عدم المصداقية والجدية في تبني سياسات وطنية أكثر استدامة ومهنية في معالجة الهدر الحاصل في المورد البشري في منشآت القطاع الخاص؛ إذ ما زالت منظومة التشغيل تعيش حالة من الفوضى والارتجالية واتساع الفجوات وتزايد السقطات المتكررة التي نتج عنها تسريح ما يقارب من (4000) آلاف عامل عماني في عام 2023، وهي نسبة مرشحة للزيادة في الأعوام القادمة إن لم تتبنَ الحكومة سياسة ذكية وحكيمة في تصحيح المسار ومراجعة الأدوات ومعالجة المشكلة من جذورها.
ومع ذلك فإن قراءة هذا المسار بدأت في الآونة الأخيرة تأخذ مناحي أقرب إلى التشاركية والحوارية في محاولة في إيجاد معالجات تضع حدا لهذه التباينات؛ الأمر الذي سيقلل من تأثير أزمة الثقة، والصورة الذهنية السلبية التي يسقطها القطاع الخاص على الكفاءة العمانية بحجة ضعف كفاءتها وإنتاجيتها أو عدم التزامها؛ وذلك من خلال الحوار الاجتماعي، الذي من شأنه أن يتيح مساحة للنقاش وتبادل وجهات النظر التي ستقدم -إن أُحسن استثمارها وضبطها- نموذجا لحلول مستديمة، ترفع من مستوى التفاعلية والتكاملية وإدراك المسؤولية المشتركة بين أطراف الإنتاج الثلاثة.
إن الحوار الاجتماعي يشكل خيارا إستراتيجيا في تجسير هوة التباينات بين أطراف العمل وتقليل حالة الصدام في رسم صورة مكبرة تعطي أملا بواقع جديد ومستقبل ينعم فيه العامل بمستويات عالية من الأمان الوظيفي في ظل فرص أكبر من العمل اللائق؛ فهو وسيلة مهمة جدا، تتيح لأطراف الإنتاج الثلاثة فرصة الاجتماع في طاولة حوارية، يتقاسم فيها الجميع المسؤولية، كما هو مسار أصيل للعمل بروح الفريق والتفاوض الجماعي، وبناء إجماع بين الأطراف الثلاثة في عالم العمل؛ الذي يستدعي اليوم تعزيز الحوار وتأسيس برامج وآليات واضحة، تعزز استدامته وتفتح آفاقا أرحب لمزيد من التشاور والمفاوضات الجماعية، وتبني برامج عمل أكثر فاعلية وواقعية وتحفيزا وانتصارا للخبرة التراكمية، وجودة الممارسة؛ وبالتالي إحداث تحولات قادمة في مسار العمل، وصناعة الأثر وخلق مساحة اتصال مستديمة، قادرة على صناعة الفارق وتحقيق إنجاز نوعي يفخر به الجميع، عبر مأسسة الحوار الاجتماعي وحوكمته وتعظيم مساره ورفع درجة استحقاقاته في بيئة العمل وتقديم بدائل وحلول، تضمن تحقيق نتائج إيجابية ونوعية.
إن مأسسة الحوار الاجتماعي توفر بيئة عمل نموذجية منتجة ترفع سقف التوقعات العمالية؛ فمن جهة يعمل على تكوين مسار عمالي واضح للجميع، يتمكن الجميع من خلاله من التعاون والتفاعل في سبيل تحقيق أهدافه، سواء من خلال رصد التحديات العملية التي تواجهها لجان الحوار الاجتماعي المشكلة من أطراف العمل الثلاثة والمؤثرين أو المساندين والشركاء الآخرين من خارج هذه المؤسسات عبر ممثليها، مع ضمان امتلاكها للمهارات والقدرات والاستعدادات الضامنة لاستدامتها وتعظيم أدوارها؛ الأمر الذي من شانه أن يقدم فرصا حوارية نموذجية، تصنع للحوار الاجتماعي الثلاثي قيمة نوعية، تظهر على منتج الممارسة، مستفيدةً من الخبرات والتجارب ونظم المحاكاة وأفضل الممارسات الدولية والأدوات المعززة للحوار الاجتماعي التشاركي ومواءمتها للحالة الوطنية ورفع القدرة التحسينية والتطويرية لها في بيئة العمل بمنشآت القطاع الخاص.
من هنا تأتي أهمية حوكمة الحوار الاجتماعي باعتباره الطريق لاعتماد أطر واضحة ومنهجيات عمل دقيقة في التعامل مع حالة الاختلالات المؤدية إلى الدخول في نزاعات عمالية، ونشر ثقافة الحوار الاجتماعي والجلوس على طاولة واحدة وخلق مزيد من الأريحية في التعمق في تناول التحديات التي تواجهها أطراف الإنتاج الثلاثة، وخلق فرصة نجاح للوصول إلى حوار منتج قائم على التكاملية ورفع درجة التنسيق والمتابعة والثقة والمصداقية وصناعة الفرص وتعظيم قيم الشراكة العملية والاستعداد المشترك لتقديم مبادرات نوعية ضامنة لسد ثغرات الخلاف والتقليل من ردّات الفعل لضمان تحقيق مستوى نوعي من المهنية في عمل اللجان الحوارية، الداعمة للانتصار لحقوق العمال ورفع درجة الالتزام بتنفيذ الواجبات والمسؤولية بكل مصداقية ومهنية، بما يعكس القيمة المضافة المتحققة من الحوار الاجتماعي، وعلاقة ذلك ببناء الثقة في المنجز الوطني وتعظيم قيم الولاء والانتماء والمسؤولية، لتجسد في شعور العامل حس المواطنة.
إن إسقاط مسار الحوار الاجتماعي في أبجديات عمل أطراف الإنتاج الثلاثة في سلطنة عمان وحجم الجهود النوعية التي يقوم بها الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، وما اتخذه في تجسيد هذا الحوار من محطات نوعية في تحقيق حوار مستدام يعكس مستوى المهنية التي يتميز بها الاتحاد والروح الإيجابية التفاعلية التي ينطلق منها في تعاطيه مع معطيات الواقع العمالي، ويظهر ذلك في ما تشير إليه إحصائيات الاتحاد لعام 2024 من أن جهوده في تعزيز الحوار الاجتماعي مع أطراف الإنتاج والنقابات العمالية أدت إلى مخرجات نوعية، سواء من خلال مجموعة اللقاءات التي عقدها مع ممثلي إدارات المنشآت والنقابات العمالية من مختلف القطاعات الاقتصادية في سلطنة عمان؛ لمناقشة مستجدات العمل النقابي، والعاملين في القطاع الخاص، وتعزيز الحوار الاجتماعي بين ممثلي إدارات المنشآت والنقابات العمالية، ومتابعة أوضاع العاملين بها، وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، أو من خلال لقاءات الاتحاد العام مع الجهات الحكومية ذات العلاقة، بالإضافة إلى المشاركات الخارجية والاتفاقات الدولية التي كان لها حضورها في تعظيم الاستفادة من أفضل الممارسات الدولية والأدوات المعززة للحوار الاجتماعي التشاركي ومواءمتها للحالة الوطنية؛ وبلغت محاضر الاجتماع التي نفذها الاتحاد مع منشآت القطاع الخاص (90) محضر تسوية واتفاقية عمل جماعية، بالإضافة إلى الجلسات الحوارية والتفاعلية والمفاوضات لدعم جهود العمال، وكذلك الاستشارات القانونية الضامنة للحقوق والتي بلغت (453) استشارة قانونية وشكوى عمالية، وكذلك عبر تشجيع تشكيل النقابات العمالية، التي بلغ عددها (335) وبلغ عدد النقابات العامة القطاعية (8)، وتعزيز البرامج التدريبية والتوعوية والتثقيفية والتطويرية، والتي بلغ عددها (33)، استفاد منها أكثر من (1559) مشاركا.
كل هذه الجهود شكلت محطات رسمت صورة تفاعلية، سعى الاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان على استحضارها بكل جدارة ومهنية، متخذا أفضل الأدوات وأنجع الأساليب، مقدما الحلول التكاملية التي تسعى لترسيخ نظام نقابي كفء وفاعل ومعزز للعمل اللائق، وقادر على أن يمارس دوره بكل حيادية ونزاهة، مستحضرا في سياسات عمله التوجيهات السامية، وأولويات رؤية عمان 2040 المتعلقة بسوق العمل والتشغيل والقطاع الخاص، نحو بناء مسار الحوكمة والاستدامة في الحوار الاجتماعي ورفع سقف إنتاجيته.